أحد الأفلام الممدوحة بشدة هذا العام والتي لفتت انتباهي لمُشاهدتها بعد ترشيح عددًا من أصدقائي له هو فيلم شركة (A24) صاحبة الأعمال السينمائية المستقلة الأشهر في الأعوام القليلة الماضية (A Ghost Story)، الفيلم الذي يقف ورائه ابن السادسة والثلاثين ربيعًا (ديفيد لوري) وهو مخرج وكاتب ومصور ومونتير له خبرة في العديد من الأشكال الفيلمية، حيث صنع أكثر من فيلمٌ تسجيلي وعددًا من الأفلام القصيرة، بالإضافة إلى أربعة أفلام روائية في رصيده (منها الفيلم الذي أنتجته ديزني العام الماضي "Pete's Dragon) قبل أن يصنع فيلمه الروائي الخامس هذا الذي افتتح مبكرًا هذا العام بـ(صاندانس) وصدر بالسينمات في يوليو الماضي.
ربما الوسيلة الأمثل لبدء حديثي عن هذا العمل هي ذكر أنه فيلمٌ شاعريٌ من نوعٍ خاص ويحتاج لحالة مزاجية رائقة وذهنٌ صافي للظفر بكامل متعته البصرية والحسية التي في جعبته، لأنه حقاً فيلمٌ (جميل) بالمعنى الجوهري للكلمة.. القصة تدور رحاها في أجواءٌ من الفانتازيا والخوارق الطبيعية والغموض عن حياة أشباح حيٌ سكني عبر مُعاصرة زوجان حديثان (الثنائي روني مارا وكايسي أفليك في تعاونهما الثاني مع المخرج بعد "Ain't Them Bodies Saints" منذ أربعة أعوام)، نرى العالم من عيني شبحٌ (متمثل في هيئة كائن تُغطّيه ملاءة وتظهر منها فتحتان سوداويتان) يقوم بالتنقل الزمني لمُشاهدة تاريخ الحياة التي دبت ببيت الزوجان وبيوتٍ أخرى من الحي، ومعها يستكشف معانٍ عن الموت والقدر والإيمان وعن ذاته الإفتراضية في حكايةٍ تحتمل أكثر من نظرية تفسرها (البعض مثلاً وافق على كون الشبح هو نفس شخصية كايسي أفليك -الذي يموت في الدقائق الأولى من العمل- تتذكر ماضيها)، لكنها -ومع ذلك- لا تهتم بالجانب الفلسفي/الفكري قدر اهتمامها بالحس الشاعري/الإستكشافي لها، وكأننا ندور في فلك الحياة التأمُّلية الروحية التي يمكن أن تُتَخيّل في العشر دقائق الأخيرة من حياة الإنسان.
نوعية الحس الشاعري التي يتعامل معه لوري في صميم فيلمه هنا له مستوى آخر من (التأمُّل) بأفلام هذه التيمة، هناك شعورٌ تنويميٌ غريبٌ يستحوذ على أجواء العمل يبدأها لاوري قبل وضع عنوان فيلمه على مقدمة الشاشة بمتابعة الكاميرا لشخصية روني مارا وهي تجر صندوق إلى خارج بيتها وتضعه مع خردوات منزلها الأخرى، نرى في هذا التتابع التماهي الكامل مع (لحظات الحياة) ومع تصويرها ومعايشتها وعدم رغبتها بالإنقطاع/المرور حيث حركة الكاميرا البطيئة تتابع مارا إلى أن تعود للبيت، ويظل الكادر بعد غياب الشخصية (متأملاً) لشكل البيت دون قَطع لقرابة العشرون ثانية، هذه الحركة تتكرر كثيراً في الفيلم لدرجة قد يصفها البعض بأنها عبثية تمامًا !، مثلًا هناك مشهد يستمر لمدة خمس دقائق كاملة على الشاشة نتابع فيها شخصية مارا وهي تأكل كعكة، ولا يخطئنا أن عقلها يسبح مع الأفكار والذكريات الماضية بعد خسارة زوجها، هناك أحد أروع المشاهد الحميمية المعبرة عن الحب التي رأيتها يوماً في الأفلام بالعشر دقائق الأولى من العمل، يستمر هذا المشهد في مدته الزمنية أبعد من المتوقع، تصل بي حد رغبتي الشديدة لو أن تستمر تلك اللحظة إلى الأبد!.. يوجد أكثر من لقطة تأملية (طويلة) كتلك في الفيلم الذي لا يريد اختلاس اللحظات ولا يريد اختزالها أو قصرها وإعطاء المُشاهد الإجابة المُباشرة، بل يدعوك أن تنسى عالمك وحياتك وأن تدخل في دهاليز عالمه الشاعري الخاص لـ92 دقيقة أرضيّة، وأكثر من ما هو ذلك خياليًا وسمائيًا وكونيًا.
ووسط حركة الكاميرا في ربوع المنزل القديم نجد أحد الأصدقاء يتحول لفيلسوف يحكي حكمةً من حِكَم الحياة، يبدأها الرجل بتبرير ماديات الحياة الزائلة بربطها بمقطوعة بيتهوفن التاسعة التي لم يكن ليخرجها لولا إيمانه بالرب، حكايةً عن وجودية الرب ورحلة الخلق وعن الحياة الأبدية الزائفة التي يريدها البشر وعن زوال كل شئٍ في نهاية المطاف، يعبر بها بصفاتٍ كالذكريات والأمل والموت والحياة، نقطةً تأملية حوارية وسط كل ذلك الصمت الذي يعمّ بالفيلم تجد فيها الشبح يصغي له بتمعُّن ويحاول الفهم و-ربما- التعلُّم منه/من البشر قليلًا.
هذه المتوالية عن ديمومة الحياة تتشابه في نبرتها الشاعرية البصرية مع ما فعله تيرينس ماليك في رائعته (The Tree of Life)، لاوري يريد أن يجعل مُشاهده في أقصى حالات النشوة البصرية عبر استغنائه للحوار، يضرب بذلك في صميم لغة السينما (البصرية) قبل أن تكون سمعية أو حوارية.. من الأشياء التي راقتني كثيرًا والتي أضافت للثيم العام للفيلم استخدام لوري الكادر التصويري المُربّعي التي نادرًا ما نراها اليوم في الأفلام الطويلة، أنت بداخل صندوقٌ سحريٌ تنظر للعالم بداخله، تتفاجأ، تنبهر، وتُغرم به تمامًا.
أيضاً هناك نزعة ذاتية كبيرة ملموسة في هذا العمل، هناك (شخصٌ ما) يريد قول (شئيء ما) بكل جوارحه وجوّانياته الفنية، لوري ليس فقط المخرج والمؤلف للفيلم لكنه أيضًا (المونتير) هنا، دائماً ما أعتبر المخرج/المونتير له قدرة إبداعية خاصة على إخراج صورة قوية وتكوين رؤية قصصية عما في ذهنه أكثر من تلك التي الموجودة عند المخرج فقط، أو المخرج/المؤلف فقط، هناك شئٌ ذاتي خاص عندما تسمع أحد صناع الأفلام وهم يتحدثون عن الطريقة التي يريدون بها إخراج عملهم في الشكل الملائم له التي قد يستحيل تخيُّل نمطاً إيقاعياً/مونتاجياً لحدوتة تتسم بالذاتية بعيدًا عن ذات صاحبها، حتى وإن كان المونتير يعلم جيدًا المناطق المعينة للقطع التي يحددها المخرج سلفًا، تلك الحالات أصبحت شائعة مؤخرًا في عالم الأفلام المستقلة خاصة القصيرة منها، والتي هي ليست بالشئ الجديد على لوري الذي عمل على قرابة العشرون منها قبلاً، لذا فكون الرجل (مونتيرًا) و(كاتبًا) قبل أن يكون (مخرجًا) هو بالتأكيد شيئًا أضاف لروح الحكاية ومقدار الخصوصية بها، الأمر الذي يجعله يُلقّب بـ(صانع أفلام) في النهاية.
أصلًا فكرة التنصُّت والمراقبة لشبحٍ ما لعالم البشر تمس وتر (الذاتية) و(الإنطوائية) جدًا، لم أستطع تجاهل تذكر المشهد الشهير بأحد سلسلة أفلام (هاري بوتر) حيث قُدِّم لهاري في عيد ميلاده عباءة الإخفاء، وأخذ يستخدمها فيما بعد -في مغامراته الإستكشافية الغامضة- لكي يرى هو أفعال البشر حين يظنون أن لا أحد يراقبهم.
في النهاية فهذا فيلم قد لا يروق الجميع، تيمته والمعادلة السينمائية التي يُراهن عليها ليست (إعتيادية) وبالتالي حتمًا لن تكون (جماهيرية)، هذا فيلم يتطلب متذوق حقيقي للسينما، شخصًا يريد أن يشعر ويفكر ويتأمل لا أن ينتظر أين سيأتي المنعطف الدرامي أو كيف ستكون خاتمة القصة، نبرته (الشاعرية) مكثفة جدًا حتى على أفلام هذا الصنف، هو غارقٌ تمامًا بها، ينضم بذلك لتيمة الأفلام المستقلة ذات النبرة الشاعرية الأسلوبية التي تجدها تكتنف أعمال الأخوان البلجيكيان داردين مثلاً، يتبع نهج أفلام من طينة (20th Century Wome) و(Loving) و(Martha Marcy May Marlene)، والقليل من (Foxcatcher) و(We Need to Talk About Kevin).