دارِين آرونوفسكي.. فيلسوفًا و سينمائيًا في فيلمه Mother!

عزيزي القاريء، هذا المقال هو محاولة شديدة الأنانية من كاتبه للتخلُص أو بمعنى أصَح للتصالح مع سطوة هذه التجربة السينيمائية عليه. ليس ما يدفعني حقًا للكتابة عن هذا الفيلم هو محاولة فك رمزياته أو فهم إسقاطاته، فالرمزيات بيِّنة و الإسقاطات واضحة، ولكني أمل أن الكتابة عنه قد تساعدني على فهم ما تثيره تلك الرمزيات في نفسي من أفكار ومشاعر متضاربة. مشاهدة فيلم Mother شبيهة بالسير في حقل ألغام ككُل أفلام مُخرجه دارين آرنوفسكي، ولكن الكتابة عنه ستكون أكثر خطورة، ولذلِك فإني أتمنى أن أُوَفَق إلى توخي الحذر في هذه الرحلة الإستكشافية المثيرة.

يختار دارين آرونوفسكي في فيلمه هذا أن يصدِم المشاهِد أكثر من أي مرة سابقة، فقد إعتدنا على فلسفته السينمائية القائمة على إظهار الجوانب الأكثر إظلامًا في النَفس البشرية سواء على المستوى الفردي كما في فيلميه الأشهر (قُدّاس لحُلم) و (البجعة السوداء) أو على مستوى جمعي يشمل البشرية ككُل كما في فيلمنا هذا.

و يختار دارن قالب غامِض و بسيط في آن من أجل إتمام هذه المُهِمة الشاقة، فيحكي لنا قصة تدور في منزل منعزل عن الكون تسكنه سيدة وزوجها الكاتب الذي يبحَث عن الإلهام، ولكنه يفشل في محاولات إيجاده بالتزامُن مع فشله في أن يُرزَق بأبناء من زوجته لأسباب نجهلها، تبدأ العُقدة أو الحدث الذي يغير مجرى هذه الحياة الرتيبة الهادئة بوصول زائر غير مُرحَب به، يأتي زاعمًا أنه ظن خطئًا أن هذا المنزل هو بنسيون حيث يمكنه إستئجار غرفة والمكوث بها، ووسط نفور الزوجة من حضور الزائر الثقيل وترحيب الكاتب المثير للريبة به، تتعقد الأحداث أكثر فيتبع قدوم هذا الزائر وصول زوجته للمكوث بالمنزل في تطفُل شبه كوميدي.

في بداية مشاهدة الفيلم، يرى المتفرج قصة مثيرة غير مفهومة إلى حدٍ ما، حيثُ أن القاص الماهِر لا يكشِف عن أوراق لعبه كلها مرةً واحدة، فيجِد المشاهِد نفسه حبيس كُرسيه في صالة العرض لا يملِك من أمر نفسه سوى متابعة كُل حدث بتركيز حتى يتضِح ما يرمي إليه كاتب ومُخرِج الفيلم دارِن.

تتصاعَد حِدة الأحداث مع بداية ظهور السودَويّةالمعهودة لـدارن آرونوفوسكي، فيُظهِر لنا شيئًا من وحشية أبناء آدم وميلهم الدائم للصراع وسَفك الدماء إن لَزِم الأمر، حتى يأتي الطوفان، طوفان من التغيُرات الدرامية شديدة الأهمية، فتتحقق آمال الشخصيتان الرئيسيتان (الزوجة) و(الكاتب) المتمثلة في أن تُرزق الزوجة بمولود وأن ينزل وحي الإلهام أخيرًا على الكاتب مع رحيل الزوار غير المُرحَب بهم عن المنزل، وبذلِك تبدأ مرحلة جديدة مُبَشِرة في حياة كُلٍ منهما.

وكما تعبث بنا الأقدار لأننا لا ندري ما تخفيه لنا يفعل دارِن نفس الشيء بشخصياته ومشاهديه، فنُصدَم بموجة درامية أشَدّ عُنفًا من سابقتها مُظهِرةً التطفُل الكامِن في الطبيعة البشرية والوحشية التي دائمًا ما يختارها البشر وسيلة لبلوغ مآربهم على حساب المبادئ الأخلاقية.

من أهم مكونات الفيلم إلى جانب حبكته ذات البُعدْين (بُعد قصصي واضِح وبُعد آخر رمزي واضح أيضًا) هي الشخصيات؛ فعند تناولنا لشخصية (الكاتب – الزوج) نَجِد أنها الأعقد و الأكثر عُمقًا و غموضًا وذلك لا يرجِع فقط إلى كونه كاتبًا و لكن يرجع كذلك للذات التي يرمُز لها وبكلمات أكثر دقة لحقيقة مشاعر صانع الفيلم دارِن آرونوفسكي تجاه هذه الذات الغامِضة المُستعصية الفهم على العقل البشري، ويُجَسِد هذا الكوكتيل من التعقيد الممثل (خافيير بارديم) فكان أداءه للشخصية ممتاز على صعوبة تجسيدها، وقد أبرَز هذا التجسيد أغلب الوقت الكثير من اللامبالاة من قَبَل الشخصية تجاه ما يدور في المنزل من أحداث بالإضافة لشيء من الكوميديا السوداء والسخرية السوداوية.

على النقيض نجِد (الزوجة) كشخصية ذات حِس مُرهَف، وشديدة الإهتمام ببيتها الذي تُريد أن تجعل منه "جنة"، ومن بداية الفيلم يرمي (آرونوفسكي) إلى أنها هي محور كُل شيء؛ فنجِد الكاميرا تتحرك معها بإستمرار طوال الفيلم، و كأن الكاميرا مُراقِب صامِت يتبعها حيثما ذهبَتْ مُظهرةً كيف أن كُل شيء يدور حولها دوران القمر حول كوكب الأرض، ويجب هنا الإشارة إلى إبداع (جنيفر لورانس) في تجسيد هذه الشخصية التي قد تكون أقل تعقيدًا عن نظريتها –شخصية الزوج- ولكنها تمُر بالكثير من الصدمات الوجدانية العنيفة.

و أهم ما يُمِيِز الفيلم إلى جانب العناصر السابق ذكرها هو ذلك الأسلوب الذي أُحِب أن أُطلِق عليه مُصطلَح (التورية السينمائية) –وهو مصطلح إخترعته لتَوي- فهذه التورية لا تكمُن فقط في أن أحداث الفيلم تحمل أكثر من تفسير، ولكن أيضًا تكمُن بشكل شديد الذكاء في الحوار بين الشصخيات؛ فتترددْ كلمات مثل (إله وجَنة وإلهام ونهاية العالم أو أبوكاليبس وتحريم وملاك) على لسان الشخصيات خلال الحوار الدائر بينهم في كثير من المواضع بشكل متواري وغير صريح وفي سياق "الحدوتة" ذاتها وبمختلف النبرات الجديّ منها والساخر، ولكن كُن واثقًا أنها دائمًا تعني شيئًا ما يتخطى معناها الأولي الواضح و سياقها القصصي الذي قيلتْ فيه.

و أعتقِد أن أفضل ما يُمَيز الفيلم كذلك هو القالب البسيط الذي يختار (آرونوفسكي) أن يُناقِش من خلاله تِلك الأفكار الفلسفية شديدة العُمق عن حقيقة الوجود البشري ككُل وذلك على صعيد البناء القصصي، ولكن على صعيد الصورة ومدى عنف الأحداث فهو يختار أن يكون عنيفًا لدرجة التعبير الأجنبي: (Disturbing أو Morbid). ففي النصف الثاني من الفيلم نُشاهد متوالية أو (Sequence) مُمعِن في التعبير عن عُنف البشرية على مر العصور بشكل شديد البلاغة السينمائية يوضِح مدى تمكُن مُخرجنا من أدواته، وأنا على يقين أنني لن أنسى هذه المتوالية أو الـ(Sequence) السينمائية ما حييتُ لسببين؛ الأول أنني أعتقد أنها واحدة من أفضل المتواليات في تاريخ السينما الهوليوودية والسبب الآخر يرجِع لمدى وطئة تعبيرها العنيف عن حقيقة من نكون، عن حقيقة أن تكون بشريًا، عن حقيقة تاريخنا الحافل بالدماء والهمجية المستترة خلف الشعارات الدينية والسياسية والثورية.

آخر ما يمكِننا التعليق عليه بخصوص فيلم Mother! هو إشارة الفيلم للدور البارز الذي لعبته الأديان وساهمتْ به في تدهور الوجود البشري، ليس المقصود الأديان بمعاناها المُجرد، ولا بنزاهتها التي أُنزِلتْ بها من السماوات ولكن المقصود بطريقة البشر في تناولها وإستخدامها من أجل تحقيق الأهداف الدُنيوية وسطو الإنسان على حق أخيه الإنسان بإسم الرب وبركته.

فيلم Mother! بالنسبة لي هو تحفة فنية مُعاصرة متكاملة الأركان، وهو واحد من الأعمال السينمائية الأكثر تمرُدًا في تاريخ السينما العالمية، فهكذا يجِب أن تكون السينما، صادِمة وحابسة للأنفاس وتطرَح من وقت لآخر ذلِك التساؤل الذي دائمًا ما ننساه كبشر ألا و هو:"كيف آلت بنا الأمور لهذه النتيجة؟"