عبر مسيرة تطورنا فائقة الامتداد عبر الزمن -نحن جنس البشر- تعلمنا طرائق العيش ضمن جماعات وطرائق تهذيب النوازع الانسانية/الحيوانية البدائية بالطريقة الصعبة، كأن التجربة البشرية ما هى إلا حالة متواصلة من التعلم، لكن مع كل هذا، وجنبًا إلى جنب مع القفزات التي حققها الجنس البشري حضاريًا وثقافيًا في كافة اﻷصعدة، لا زلنا ننكص بقوة إلى نوازعنا اﻷولية البدائية حينما لا يفلح كل ما اكتسبناه، ونتصرف بقوة بناء عليها.
ومن هذه النوازع اﻷصيلة، يحتل العنف مكانة كبيرة جدًا لدى اﻹنسان، مهما هذبنا أنفسنا وقررنا التعامل بتحضر مع بعضنا البعض، يحضر العنف كخيار ينتظر موعد انطلاقه، سواء أكان هذا العنف عنف جسدي أو عنف معنوي، وإن كان للعنف الجسدي سيادة في أغلب المواقف، خاصة مع ابتكارية اﻹنسان غير الطبيعية لطرائق ممارسة العنف، أو على حد تعبير فردريك نيتشه: "اﻹنسان هو الحيوان اﻷكثر وحشية".
يلتقط الكاتب والمخرج اليوناني يورجوس لانثيموس في عمله اﻷحدث The Killing of a Sacred Deer هذا الخيط، مقدمًا اثنان من أكثر أشكال العنف التي تداولها البشر في قالب واحد وقصة واحدة: الفداء كوسيلة ﻹتقاء شرور قوى الطبيعة أو ﻹرضاء اﻵلهة، والانتقام كوسيلة لتصفية الكثير من الحسابات الشخصية والوصول إلى تسوية كما يراها المنتقم من وجهة نظره.
قبيل الوصول لعقدة الفيلم، ومعرفة الماسأة الكبرى التي تنتظر أسرة ميرفي وربها، وعلى خلاف عادة لانثيموس، فهو يتمهل كثيرًا في اﻹعداد لقصته، يدفعنا إلى مراقبة نمط حياة آل ميرفي الذي يمكن وصفه بنمط الحياة المعياري أو الاعتيادي لدى أية أسرة، لكن في نفس الوقت بدون دفعنا إلى التوحد معهم بشكل كامل، بل يبقينا على مسافة منهم لكنها كذلك مسافة قريبة في آن واحد، خالقًا فجوة كبرى ومقصودة بين ما نراه بأعيننا وبين حقيقة ما نراه بأعيننا، فيبدو كل شيء على السطح ساكنًا وهادئًا بل وحتى روتينيًا، وهو ما يؤكده منذ بداية الفيلم بنوعية مواضيع الحوار الدائرة بين الشخصيات (الحوار الافتتاحي حول أنواع ساعات اليد كمثال).
كما يعمل على إعداد المشاهد بشتى السبل أن هناك شيء غير طبيعي وراء هذا المظهر المعياري التقليدي، كأنه يوقظ فينا حس ترقب الخطر القادم مثلما قد يحس حيوان أليف بأنه في مرمى حيوان مفترس على وشك الانقضاض عليه من حيث لا يدري، سواء من حيث الطابع العام للكادرات التي تضع الشخصيات في فضاء واسع يتضاءلون أمامه، أو المقطوعات الصوتية بالغة الخشونة التي تسيطر على شريط الصوت والتي يمكن بالكاد تسميتها أو اعتبارها موسيقى بالمعنى التقليدي!
ومن أجل الوصول لتلك المعادلة، فهو يحافظ هنا من جديد على طريقة توجيهه للممثلين والتي تميز أسلوبه الفني، حيث يشوب اﻷداءات نزعة متمسرحة تميل إلى إلقاء حديث محفوظ سلفًا بشكل آلي دون ممارسة الممثلين ﻷي شكل من أشكال التوحد والتماهي مع شخصياتهم، وكأنه يساعدهم بذات نفسه في صنع مسافة بينهم وبين الشخصيات التي يؤدونها، مما يدفعنا نحن -كمشاهدين- في مراقبة ما يقومون به وليس مشاركتهم فيه.
ولهذا السبب، فهو يفرغ أحداث الفيلم ومأساة آل ميرفي القادمة من النزعة التراجيدية المفترضة في قصة كهذه إمعانًا في خلق هذه المسافة، لانثيموس يرغب في التأكيد على كون ما نراه برغم من كونه صادم جدًا في عنفه كنهج وكجرعة مقدمة عبر الشاشة، وهو أمر يجيده لانثيموس جيدًا، إلا أنه في ذات الوقت يقدمه كأنه شيء معتاد ممارسته من قبل البشر، ناشدًا تقديم أمثولة عن الفداء أكثر منها تقديم تجربة تطهيرية على النسق المسرحي اﻹغريقي، وإن كان هذا أيضًا لا ينفي تواجد المأساة ضمن اﻷحداث، لكنه لا يقدمها بكونها مأساة، شيء يشبه مطالعة "كوميك ستريب" للفنان الاسباني خوان كورنيلا ذو اﻷفكار السريالية وشديدة العنف في آن واحد، لكنها توصل الفكرة من وراءها دون عناء في الشرح.
حتى نهاية الفيلم، لا نعلم -ولن نعلم أبدًا- ماهية اللعنة التي ألقاها مارتن على آل ميرفي لكي يصيروا أمام الخيار الصعب بين موتهم جميعًا الواحد تلو اﻵخر أو تقديم رب اﻷسرة أحد أفراد أسرته ليكون قربانًا بشريًا لمارتن في سبيل نيل انتقامه لموت أبيه إثر عملية جراحية قام بها ميرفي، لكن لانثيموس أصلًا لا يبالي بشرح الكيفية حتى مع علمنا بالسبب المباشر وراءها، بل وفي مرحلة ما من الفيلم يصير التساؤل عن الكيفية بلا معني أساسًا لصالح معرفة ما سيفعله أفراد اﻷسرة إزاء هذا الخيار الصعب، الفيلم يقدم اللعنة التي تصيب اﻷسرة كأمر واقع آتي غير معروف كنهه ويتوجب التصرف على أساسه.
هذه الحالة تشبه بشكل كبير مأساة فيل مذيع النشرة الجوية (بيل موراي ضمن أحداث Groundhog Day حيث يجد نفسه عالقًا دون مقدمات في يوم واحد يتكرر أمامه بنفس تراتيبة اﻷحداث بلا نهاية، فيحاول البحث بشتى الطرق عن سبب ما يحدث له حتى يكتشف أنه كان يطرح على نفسه السؤال الخاطيء، فالسؤال الصحيح هو: ماذا سيفعل حيال هذه الورطة؟ ولا عجب أن لانثيموس يشير على نحو صريح لهذا الفيلم تحديدًا دون غيره في المشهد حينما يعرض مارتن على ميرفي مشاهدته معه، والذي يعتبره "فيلم والده المفضل".
وﻷن رب اﻷسرة جراح قلب في اﻷساس، فمن المفترض في البدء أن يلجأ للأسلوب العلمي في التفكير حيال اﻷعراض المرضية التي تنتاب أبنائه، وحسبما تعلم كإنسان متحضر، وهو ما يحدث بالفعل، لكن مع كل محاولاته ومحاولات زوجته الفاشلة غير المجدية للتوصل إلى فهم للكيفية التي مرض بها أبنائه لدرجة باتت مهددة إياهم بالموت، وتلك المواجهة غير المسبوقة التي تباغتهم بين المستويين الفيزيقي والميتافيزيقي، يتخلى كليهما رويدًا رويدًا عن اﻷسلوب العلمي في التفكير وينكصان ﻷجل اللجوء للأساليب اﻷولية التي تستند في اﻷساس على الحواس المجردة المباشرة وليس العكس كما ترى نظرية الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت في ترتيبه الشهير لتطور أساليب التفكير عبر التاريخ.
وعلى قدر صعوبة هذه المواجهة، تأتي أيضًا صعوبة اﻹجراءات المتبعة في سبيل البحث عن أي مخرج من هذه المأساة المحققة: سواء قيام ميرفي باختطاف مارتن الذي كان سببًا في هذه اللعنة منذ البداية ومحاولة دفعه إلى الحديث، أو قيام زوجته بتقديم رشوة جنسية لزميل ميرفي في المستشفى حتى يسرب لها معلومات سرية قد تفيدها في فهم ما يحدث، كمحاولة للتحايل على حتمية الوصول للحل اﻷخير الذي يحاول عدم اللجوء إليه والذي لا يتفق مع وضعه وتحضره لكنه يتواءم مع بدائيته كبشري التي تطفو على السطح أكثر مع انكشاف واحتراق كل أوراق اللعب.
إذن تتأتي عبثية الوضع هنا من الاكتشاف المؤلم لصاحب اليد الطولي في هذا الصراع، وليس فقط من عدم جدوى كل اﻷساليب الحضارية في هذا الصراع، مما يتسبب في صفعة قوية لكل تلك المنظومة القيمية والحضارية والمؤمنين بها، والارتداد الحتمي أكثر فأكثر نحو الحل اﻷول والغزيرة الكامنة: العنف، والضرورة الحتمية لتقديم الفداء أو اﻷضحية البشرية في سبيل بقاء الجماعة البشرية كأية جماعة بشرية بدائية لم تمر أفكارها بأي تطور على اﻹطلاق.
قد يبدو فيلم The Killing of a Sacred Deer فيلم مؤلم وقاسي وساخر ومؤذي نفسيًا بكل الطرائق الممكنة، بل وينشد تقديم نسخة بالغة العبثية والوحشية عن فكرة الفداء، لكنه يضعنا كمشاهدين أمام ما لا نريد أن نعترف به أو لا ندركه بحكم تغير العصر، وهو أننا كائنات متوحشة وعنيفة جدًا حينما تسنح أدنى فرصة لبزوغ هذا الجانب البدائي.