بعد عامان كاملان من انطلاقة الثلاثية الثالثة في سلسلة Star Wars من خلال الجزء السابع الذي حمل عنوان The Force awakens، مبشرًا بدماء جديدة تسري في عروق هذه السلسلة العريقة لتواصل أمجاد الثلاثية اﻷولى وتحاول تجاوز خيبات ومشاكل الثلاثية الثانية، كان يبدو أن السلسلة تحتاج للمزيد دون اكتفاء بتقديم ما يطمئن إليه عشاق السلسلة ويألفوه دومًا ويحبون أن يروه، وعلى الرغم من جودة الجزء السابع حقًا وكونه تحية سينمائية قوية ﻷول أفلامها A New Hope، إلا أنه -إلى حد ما- قد سار بشكل كبير في منطقة اﻷمان، قدم بالضبط كل ما ينتظره محبي Star Wars دون ان يحيد عليه: الحفاظ على الطابع البصري للثلاثية اﻷولى وعدم الانسياق وراء ألعاب الCGI التي سيطرت على الثلاثية الثانية، الحفاظ على نفس العناصر السردية التي وصلت لدرجة التشابه في بعض المنحنيات مع A New Hope لدرجة دفعت البعض لاتهامه بأنه مجرد "إعادة إنتاج" له.
من الواضح أن الكاتب والمخرج الطموح ريان جونسون لم يرد أن يلعب بالشكل اﻵمن في تعامله مع أحدث أفلام السلسلة The Last Jedi، وإنما كان يطمح ﻷن يلعب على طريقته الخاصة، وأن ينتهز فرصة مسئوليته الكاملة تأليفًا وإخراجًا عن هذا الجزء دون أية شراكة لكي يقدم ما يريده هو، وليس ما يريده أو يتوقعه محبي السلسلة، وأن يتمرد على كافة النظريات التي أحاطت بهذا الجزء، مما جعله جزء فريد من نوعه في عالم Star Wars.
صحيح أن الفيلم يستخدم الكثير من الشذرات والتفاصيل المتناثرة على مدار أفلام السلسلة (رسالة اﻷميرة ليا ﻷوبي وان كانوبي، ظهور المعلم يودا، تعاليم الجيداي وظهور كتبها المقدسة، ظهور الشمسين في السماء، سيف لوك سكايواكر الضوئي... الخ)، إلا أن ريان يوجه كل هذه التفاصيل الصغيرة لكي تخدم القصة التي يحاول سردها في اﻷساس وفي اﻹتجاه الذي تحتاجه وليس لكونها مجرد تفاصيل تميز السلسلة وعالمها القصصي والبصري، ويعرفها جميع المشاهدين بلا استثناء.
في أكثر مشهد منتظر منذ الجزء الفائت وجاء كخاتمة له، وهو اللقاء المنتظر بين ري (ديزي ريدلي) وفارس الجيداي المخضرم لوك سكايواكر (مارك هاميل) حينما تقوم بتسليمه سيفه الضوئي، وبعد شحن كبير لتلك اللحظة المنتظرة، سرعان ما يلتقط لوك السيف ليلقيه وراء ظهره، وهو ما يمنح دلالة ونبوءة مبكرة للغاية عما سيكون عليه حال هذا الجزء الجديد، أو كأنها رسالة ضمنية من ريان جونسون بأن ينسى المشاهد ما عهده عن السلسلة، ﻷنه سيشهد شيئًا مختلفًا عما اعتاده من قبل في كافة أفلامها السابقة.
تتأكد هذه اﻹشارة أكثر بطريقة أوضح من خلال مشهد احتراق الشجرة المقدسة وكتب الجيداي، والذي يتزامن مع الظهور الجديد للمعلم يودا بعد رحيله في Return Of The Jedi ليخبره عن عدم ضرورة التقيد الحرفي بما ورد في هذه الكتب التي لم يقرأها لوك أصلًا، وإنما الاستمساك بروحها، وهى المرة اﻷولى في السلسلة التي نشهد فيها تلك اﻹشارة إلى الجيداي كـ"عقيدة" ذات صبغة دينية بهذا الشكل الصريح، مما يوجب رفع هالة التأليه عنها، ليس فقط بسبب شكوك لوك نفسه، وإنما ﻷن التعامل مع تراث Star Wars بمنطق التأليه يجعل من المستحيل التعامل معه بالحرية اللازمة التي يحتاجها ريان لقصته.
من أكثر مشاغل ريان جونسون في فيلمه هذا هو صورة الميراث الهائل للسلسلة في مرآة ذاته، الصراع هنا في المقام الأول ليس مجرد صراع اعتيادي بين قوتي الخير (فرسان الجيداي+الثوار) والشر (المرتبة الأولى)، وإنما هو صراع داخلي عنيف بين ميراث الجيداي وصورته المنعكسة باعتباره ممثلًا لكل ما هو خِير لصورته اﻵنية المليئة بالتخبط والشك في جدوى هذا الميراث، ربما يكون هذا هو الصراع اﻷبرز واﻷكثر عمقًا في هذا الجزء.
الصراع هنا ليس صراع ضدين واضحين كالشمس، بل لا يعود الخير والشر هنا سوى مجرد طرفين متطرفين في مصفوفة طويلة وبينهما الآلاف من الدرجات التي تتماهى بينهما هذه الحدية، ولا محل لهما هنا بنفس الصورة المتخيلة عنهما، فالشك هنا ضرورة حتمية للوصول إلى حالة اﻹيمان، والشجاعة في غير محلها أو وقتها قد تتحول لشيء أهوج ومندفع، والاهتمام بالظهور بمظهر البطولة أكثر من التصرف بعقلانية وواقعية له عواقب غير حميدة.
هذه الجزئية بالذات كانت واضحة للغاية من خلال الثنائي بو داميرون واﻷدميرال هولدو، ما كان يحرك اﻷول دراميًا منذ أولى مشاهد الفيلم هو اتخاذ الشجاعة كهدف في حد ذاته حتى لو على حساب سقوط ضحايا من صفه، مما يجعله في هذا اﻹطار متهورًا أكثر منه شجاعًا، وعلى النقيض التام تأتي الثانية التي لا تهتم البتة بظهور بمظهر البطلة بقدر اهتمامها بتحقيق ما يمكن تحقيقه لمصلحة الثوار وليس ما يتوجب تحقيقه، وهو ما يضع الرؤيتان الحالمة والواقعية للشجاعة أمام بعضهما البعض.
هذه اﻷرضية الدرامية المركبة غير المعتادة في السلسلة تترك أثرها بالكامل على كافة القرارات الدرامية التي اتخذها ريان، وهى للحق قرارات فائقة الصعوبة، لكن ريان كان يعرف في كل مرة كيف سيحلها، لا أن يحصر نفسه دراميًا فيلجأ ﻷسهل حل درامي متاح أمامه، وهو ما بدا مثلًا من مخالفة كافة التوقعات حول ماضي ري وحقيقة والديها بعد تخيلها ان القدر سيربطها بفرسان الجيداي، أو مسلكه الدرامي مع اللورد سنوك، أو حتى العلاقة الملتبسة بين لوك سكايواكر وكايلو رين التي احتوت على مركبات درامية معقدة أكثر بكثير من مجرد صراع نمطي بين ضدين، واﻷجمل انه مع المشاهدة حتى آخر لحظة، فلن يستطيع المشاهد توقع ما سيفعله به ريان في اللحظة التالية، أو كيف سيحل المعضلة الدرامية التي يشهدها اﻵن على الشاشة، كلها حلول حاذقة لا تأتي بتاتًا من التقيد الحرفي بميراث Star Wars بقدر التقيد بروحها.
وعلى قدر اختلاف هذا الجزء دراميًا عما عداه من البقية، فإنه يختلف عنهم بصريًا كذلك، هناك سيطرة كاسحة للون اﻷحمر في العديد من المشاهد المحورية داخل الفيلم التي تصبغ مذاقه البصري الخاص، هذه الحمرة ستجدها في قمرات سفن المرتبة اﻷولى، في ديكور اللورد سنوك، في الأرضية المالحة التي تدور عليها وقائع المعركة المنتظرة بين الثوار ورجال المرتبة اﻷولى... الخ.