قبل أن ينقضي عام 2017 بساعات قليلة، رحل عن عالمنا المخرج عمّار الخليفي، رائد السينما التونسية الذي كان أول تونسي ينجز فيلمًا طويلًا عام 1966 عندما قدم فيلمه (الفجر)؛ لتكون البداية التاريخية لصناعة سينمائية لم يرد القدر أن يجعل الخليفي يغادر الحياة قبل الاطمئنان لأنها تسير حقًا على الطريق الصحيح.
الطريق الصحيح هنا وصف لا يشير فقط إلى الارتفاع المشهود في حجم الإنتاج السينمائي التونسي، والذي بلغ خلال العام المُنقضي ـ وفق لما أعلنه مدير أيام قرطاج السينمائية (نجيب عيّاد) ليلة افتتاح المهرجان ـ رقمًا قياسيًا هو 37 فيلمًا طويلًا و41 فيلمًا قصيرًا خلال العام، بينما أنتجت الصناعة المصرية خلال العام نفسه 48 فيلمًا، ليقترب الفارق في التلاشي بعد سنوات كان الإنتاج المصري فيها يبلغ عشرات أضعاف نظيره التونسي.
الوصف لا يقتصر كذلك على تأثير السينما التونسية المتصاعد ووجودها الدائم في أكبر المحافل الدولية، حتى صار وجود الفيلم التونسي المؤثر أمرًا طبيعيًا في أهم المهرجانات، ويكفي إننا خلال سنتين فقط رأينا نحبك هادي لمحمد بن عطية ينال جائزتي العمل الأول والتمثيل في مهرجان برلين، آخر واحد فينا لعلاء الدين سليم يرفع جائزة أسد المستقبل في فينيسيا، على كف عفريت لكوثر بن هنية يتم اختياره لقسم نظرة ما في مهرجان كان، وكذا تحضر رجاء العماري بـ جسد غريب في تورنتو، ومؤخرًا يحصد النجم رؤوف بن عمر جائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة عن دوره في تونس الليل لإلياس بكار.
نحو صناعة سينمائية
كل ما سبق صحيح، لكن ما يجعلنا حقًا نقول أن السينما التونسية على الطريق الصحيح هو أن النجاح الكمي والكيفي يعكسان تحوّل تونس من بلد لديه (صُناع سينما) إلى بلد يمتلك (صناعة سينمائية)، وبين الأمرين فروق كبيرة يدركها كل من تابع السينما العربية عبر تاريخها الذي لم تتوقف فيه بعض الدول عن تقديم صناع أفلام موهوبين يظلمهم تواجدهم في بلد غير منتج للسينما؛ فيظلوا طيلة حياتهم يجاهدون لجمع المال اللازم لصناعة ثلاثة أو أربعة أفلام، كانوا ليقدمون أضعافها كمًا وكيفًا لو عملوا تحت مظلة صناعة محلية، بما يعنيه ذلك من دوران لحركة الإنتاج وسهولة توظيف تقنيين مهرة وامتلاك مختبرات لإنهاء مراحل الفيلم محليًا، وقبل كل هذا تواجد سوق محلي يستقبل الأفلام ويدعمها بالمشاهدة، فليس أصعب على مخرج من أن يصنع فيلمًا فيراه العالم ولا يُعرض لبني وطنه.
تونس الآن صارت تمتلك صناعة ناشئة وناشطة بكل عناصرها، لديها دعم حكومي ممثل في تمويل المركز الوطني للسينما للسينما والصورة الجزئي لعدد كبير من الأفلام سنوياً، مع عدد منتجين مستقلين امتلكوا مع تراكم السنوات خبرة واسعة في التعامل مع مصادر التمويل الأوروبية فصار اسم مثل درة بوشوشة (نوماديز للإنتاج) أو عماد مرزوق (بروباجاندا للإنتاج) أو حبيب عطية (سينيتليفيلم) ضمانًا لصناديق الدعم الغربية لضخ أموالها في أفلام تونسية، وهي سمعة لا يكاد يملكها في مصر في لحظتنا هذه سوى منتج وحيد هو محمد حفظي (فيلم كلينك).
الثلاثة الكبار ليسوا اللاعبين الوحيدين في هذه المساحة وإن كانوا الأكثر رسوخًا، لكن وجود الصناعة دفع العجلة وأثمر عن مولد شركات إنتاج صغيرة آخذة في التوسع شيئًا فشيئًا مثل بوليموفيز (محمد علي بن حمراء) ويول فيلم هاوس (مهدي هميلي ومفيدة فضيلة) لتضيف المزيد من التنوع على السوق التونسي، تزامناً مع عودة كبار المنتجين مثل عبد العزيز بن ملوكة (سي تي في برودكشن) للاستثمار في صناعة أفلام سينمائية بدلاً من الإنتاج التلفزيوني.
يكتمل هذا باتجاه جديد لدى الجمهور التونسي الذي عاد يذهب لقاعات العرض بكثافة، بعد سنوات من الابتعاد عن الصالات شكّل واحدة من أغرب العلاقات بالسينما، فالجمهور التونسي يذهب بعشرات الآلاف ويصل الأمر للشجار والبيع بالسوق السوداء لأفلام أيام قرطاج السينمائية، ثم ينتهي المهرجان فتصير القاعات خاوية تعرض الأفلام لحضور معدود. الوضع هذا بدأ يتغير بصورة واضحة من لحظة النجاح الضخم الذي حققه "نحبك هادي"، ومؤخرًا رفعت الصالات لافتة "كامل العدد" بكثافة في عروض فيلمي الجايدة لسلمى بكار و"شيطان القايلة" لمعز كمون الذي يُعرض حاليًا بنجاح كبير. صحيح أن انحياز الجمهور العام خارج المهرجانات ـ في تونس كما في غيرها ـ لا يرتبط كثيرًا بالمستوى والقيمة الفنية للأفلام، لكن يظل الإقبال في حد ذاته مكسبًا، لا سيما في صناعة لازالت في مرحلة تثبيت الأقدام.
المُنتظر في العام الجديد
للتأكد من الرأي السابق لا يحتاج الأمر إلا أن ننظر لقائمة الأفلام المرتقبة خلال 2018، والتي دخلت كلها مراحل التنفيذ سواء تم تصويرها كليًا أو جزئيًا، أو تم الانتهاء من التحضير لها ويستعد مخرجوها لبدء التصوير. القائمة الحافلة التي تخبرنا أن كل مخرج تونسي تقريبًا، بغض النظر عن جيله، لديه فيلم جديد إما تم عرضه أو ينتظر العرض أو قيد الإعداد. على رأس الأعمال المنتظرة يأتي ولدي، الفيلم الثاني لـ محمد بن عطية الذي ينتظر الجميع ماذا سيأتي به بعد النجاح غير المسبوق لـ "نحبك هادي". بن عطية يكرر العمل مع نوماديز للإنتاج، تمامًا مثلما يواصل نجيب بلقاضي العمل مع المنتج عماد مرزوق في شركتهما بروباجندا لتصوير فيلم بلقاضي الجديد "اغزرلي". المخرج والممثل الشاب المعروف بعوالمه الغرائبية التي قدمها في فيلمه التسجيلي الشهير "VHS كحلوشة" ثم في عمله الروائي الأول "بستاردو" نضع آمالًا كبيرة على ما سيعود به بعد عدة سنوات من التوقف عن الإخراج.
مجموعة من المخرجين الآتين من نجاح في عالم الأفلام القصيرة لإنجاز أفلامهم الطويلة الأولى سيكون لهم حضور خلال العام، هند بوجمعة التي عرفناها من فيلمها القصير "وتزوج روميو جوليت" تستعد لتصوير فيلمها الطويل "نورا في بلاد العجائب"، وأنيس الأسود صاحب "صباط العيد" أنهى تصوير فيلمه الطويل الأول "قدحة"، بينما يحضر مهدي برصاوي الذي نال فيلمه القصير "خلينا هكا خير" مهر دبي الذهبي العام الماضي لتصوير فيلمه الأول "ابن".
خطوة التحوّل من الأفلام القصيرة للطويلة أقدم عليها قبل عامين مخرج خبير هو لطفي عاشور بتقديم "غدوة حيّ". عاشور يصوّر حاليًا فيلمه الجديد "بين الرجال" وينتج لشريكته النجمة أنيسة داود أول أعمالها كمخرجة وهو فيلم قصير بعنوان "الطريق". كذلك يستعد مهدي هميلي لتصوير فيلمه الثاني بعد "تالا مون آمور" والذي سيحمل عنوان "ذا تروب - الفرقة" بعدما فاز فيلم "آية" من إنتاجه وإخراج مفيدة فضيلة بالتانيت الذهبي لمهرجان قرطاج الأخير.
النشاط لا يقتصر على جيل الشباب، فكبار السينما التونسية أيضًا يعملون بنشاط. رضا الباهي يستعد لتصوير فيلمه الجديد "جزيرة الغفران" بعدما أثار فيلمه السابق "زهرة حلب" الكثير من الجدل. محمود بن محمود يقوم بتصوير فيلم بعنوان "فتوى"، والنوري بوزيد سيبدأ في مارس تصوير فيلم جديد لم يُحدد عنوانه بعد، سيكون فيلم العودة بعد توقف دام منذ أن قدم "مانموتش" عام 2012 عقب الثورة التونسية.
المنتج حبيب عطية يقوم مع المخرج وليد طايع بإنهاء فيلمهما الجديد "فطاريا"، بينما يبدأ في شهر أبريل تصوير فيلم "سر عائلة السلطاني" الذي يُقدم المنتج محمد علي بن حمرا من خلاله المخرج مجدي الأخضر في أول أفلامه الطويلة.
القائمة السابقة هي فقط ما تم الإعلان عنه ووصلنا أخباره من الأفلام التونسية التي سيبدأ عرضها تباعًا خلال العام الجديد، وربما بدايات العام المقبل، والتي يمتلك صناعها خبرة وأعمالًا سابقة تجعلنا ننتظر جديدهم الذي سيأتون به. حالة من النشاط المتزامن لم تعشها تونس من قبل، ويمكن القطع بأن بلدًا عربيًا آخر لا يعيشها في لحظتنا هذه. حالة تجعلنا نقول أن بزوغ السينما التونسية خلال العامين الماضيين لم يأت بالصدفة، وأن هذا التألق سيتواصل خلال السنوات المقبلة.