اهتم العديد من الفلاسفة والعلماء بطرح تصورات لمجتمع مثالي من خلال مؤلفاتهم، لكن الطبيعة الفاسدة للبشر وقفت سدًا منيعًا في وجه تلك التصورات، لذلك لا داعي لأن تضيع وقتك الثمين وترهق نفسك بلا فائدة ولا منفعة مع أفلاطون والفارابي في رحلتهم الواهمة إلى المدينة الفاضلة، لأنها ليست موجودة إلا في نسج خيالهم، فقط عليك أن تتحلى بقدرٍ من الشجاعة والمسئولية تجاه السلبيات التي لابد وأن تصادفك بعضًا منها خلال ما تنعم به عليك تلك الحياة الموبوءة من سنوات، حتى لو اجتمع على واقع تلك السلبيات الجموع، ورضخ لها كل من حولك، فمهمة تغيير تلك السلبية يجب أن تصبح هدفًا نبيلًا تصحو كل يوم من أجل تحقيقه، وإن فنيت فيه كامل حياتك، أو التقيت مبكرًا في طريقه مماتك، هذا إن شئت أن تعيش حرًا.
لا تَعتبر هذه المقدمة بمثابة تحريضًا مني لتعلن عن حريتك من خلال إثارة الشغب، وتدمير كل ما هو جميل من حولك، إلا أن أملي يخيب عندما أراك تستسلم إلى الأمر الواقع معلقًا سلبيتك على شماعة الجموع المجتمعة، وهنا يجب عليك أن تتبنى رد فعل إيجابي تعبر به عن موقفك، فقد جاءت جميع دساتير العالم لتكفل للمواطن حق التعبير عن رأيه طالما كانت وسيلة ذاك التعبير سلمية، لذلك ليس عيبًا أن تقوم باستئجار أحد الأعمدة على أحد الطرق لتنصب عليه إعلانًا تعبر من خلاله عن الرسالة التي تريد توجيهها، كما حدث تمامًا في فيلم "ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبينج.
يسلط فيلم "ثلاث لوحات إعلانية" الضوء على حربًا باردة تشنها مواطنة عادية على مركز شرطة المدينة بالكامل، ويصور الأثر الذي يمكن أن يتركه الفرد في مجتمعه عندما لا يرتضي التخاذل أسلوبًا في التعامل مع حقوقه، عن طريق سرد قصة قريبة للواقع تتطرق إلى حجم المعاناة التي تعيشها إحدى الأمهات هي "ميلدريد هايز" (فرانسيس ماكدورماند) داخل أحد المدن الصغيرة "ميزوري"، التي تتميز بقلة تعداد سكانها وكثرة مشكلاتها الحيوية، هذه الأم فقدت ابنتها بعد أن تعرضت للاغتصاب والقتل في وقت سابق لأحداث الفيلم الذي بدأت بعدما انتظرت الأم عدة أشهر من الجريمة، على أمل أن تتوصل الشرطة إلى الجاني حتى يتسنى تقديمه لمحاكمة عادلة تشفي غليلها، وتهدئ قليلًا من روعها، لكن يبدو بأن صبرها نفد وتبدد مع النتائج غير المجدية، وبدأت تشعر بأن القضية في طريقها للإهمال، فقررت "ميلدريد" استئجار ثلاثة مواقع على أحد الطرق المهجورة المؤدية إلى بلدتها (حتى أن صاحب مكتب الدعاية والإعلان اضطر للعودة إلى دفاتره القديمة حتى يتذكر تلك المواقع التي هي جزء من ممتلكاته في الأساس)، وهو نفس الطريق الذي شهد اغتصاب وقتل ابنتها، لتنصب فوق تلك المواقع ثلاث لوحات إعلانية تحمل كلمات كموجة من النقد اللاذع موجهة لرئيس شرطة المدينة، في محاولة منها لإشعال حماس الشرطة وشحذ هممهم المتراخية لاستكمال مهمتهم في تعقب أثر الجاني.
نجحت فكرة اللوحات في لفت الانتباه، لكنها لم تلقى الاستحسان، فالعقبة هنا تكمن في أن سكان المدينة، ومن ضمنهم "ميلدريد" نفسها، يكنون الإحترام والتقدير لرئيس شرطتهم المبجل "ويلبي" وودي هاريلسون فضلًا عن مشاعر التعاطف التي يحملونها له بسبب معاناته مع مرض السرطان، الأمر الذي تسبب في حالة عداء تلقائي من المواطنين والشرطة على حد سواء مع السيدة التي ترتدي الباندانا على رأسها بشكل دائم، تشتعل الأحداث مع استسلام "ويلبي" للمرض الخبيث على الرغم من صلابة الرجل، وتشتعل أكثر مع تدخل مساعده العنصري الأصل والذي يتسم بالعدوانية وسرعة الغضب "ديكسون" سام روكويل للتصدي إلى فكرة السيدة التي لا تريد إلا العدالة لابنتها، حتى لو كان ذلك سيدفعها لأن تحرق مركز الشرطة برمته.
"ثلاث لوحات إعلانية" هو الفيلم الثالث للمخرج / سيناريست مارتن ماكدونا من حيث السيطرة الكاملة على التنفيذ، والأول له بدون أن يتولى كولين فاريل دور البطولة، قدم "ماكدونا" من خلال هذا الفيلم دراما عميقة تتسم بالتشويق والإثارة، يتخللها بعض الكوميديا السوداء أحيانًا، جامعًا كل تلك العناصر داخل إطار فكرة لم يسبقه أحد إليها من قبل، لم يختلق الفكرة بأكملها لكنه استلهمها من إعلان حقيقي على أحد طرق السفر يحمل استغاثة شخص ما يطالب بالعدالة في جريمة متعلقة بأسرته لم يتم العثور لها على جانٍ، هذا المخرج هو خير نموذج لصانع أفلام لا يستهين بالتفاصيل الصغيرة التي يلقاها، ويستطيع بعبقريته من تحويلها إلى أعظم الأفلام.
اختيار الطاقم التمثيلي يدل على رؤية ثاقبة منبعها الوحيد هو وحي خيال "مكدونا"، الذي لم يجد ما يمنعه ليكتب دور البطولة خصيصًا لصالح المرأة الحديدية "فرانسيس مكدورماند" التي ترددت قليلًا في بداية المفاوضات، بسبب اعتقادها بأن الدور يلائم أي ممثلة أخرى تصغرها في العمر، حيث أن معظم سيدات هذه المدينة يتزوجن في سن صغيرة، لكنها، ومن حسن حظنا كمشاهدين، اقتنعت بفكرة تجسيد الشخصية في نهاية المطاف، بتشجيع من زوجها وضغط من المخرج الذي كان في أشد الحاجة لأدائها الجامد عديم العواطف الذي تتميز به عن غيرها، لتمنح الشخصية هوية صلبة من النادر أن تجدها في ممثلة أخرى، ومع ذلك ستجعلك بطريقة ما تشعر بمعاناتها وتتعاطف مع قضيتها، لكنك أبدًا لن تشاهدها تذهب للتوسل من جهات تنفيذ القانون الهمة من أجل أن تلتمس منك مشاعر العطف والرحمة، بل وقفت تواجههم في تحدٍ، لتفضح تخاذلهم وتكشف تكاسلهم.
وبالرغم من أن مساحة دورها تمنحها لقب الشخصية الرئيسية الوحيدة بالفيلم، إلا أن تلك المساحة لم تكن مجحفة بحق باقي الشخصيات الثانوية، فالمخرج لم يجلب "مكدورماند" ليعتمد فقط على تلقائيتها وشدة بأسها من أجل نجاح العمل، بل أحاطها بمجموعة مميزة من الممثلين المساعدين بمساحات لا بأس بها، "هاريلسون" الذي لا تشعر بأنه يجسد شخصية في فيلم، "روكويل" الحصان الأسود للعمل، بيتر دينكليدج القزم الشهير من المسلسل العالمي لعبة العروش، جميعها اختيارات صائبة أسفرت عن ترشيحين لجائزة أوسكارية وحيدة عن أفضل ممثل مساعد، الترشيحان كانا من نصيب المتألقان "وودي هاريلسون"، "سام روكويل" الفائز من خلال هذا الدور بجائزة "جولدن جلوب" كأفضل ممثل مساعد، ليتنافس أبناء الفيلم الواحد على نفس الجائزة، في سابقة لم تحدث منذ حفل الأوسكار لعام 1992 عندما ترشح كلًا من هارفي كيتل، وبن كينجسلي لجائزة أفضل ممثل مساعد عن فيلم Bugsy، ورغم ذلك ذهبت الجائزة في النهاية إلى "جاك بالانس" عن فيلم City Slickers، فهل يتكرر الأمر في حفل هذا العام، وتفلت الجائزة من بين أيدي فيلم "ثلاث لوحات إعلانية"؟
تم عرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان "فينيسيا" الدولي للأفلام رقم 74، في تاريخ الرابع من سبتمبر الماضي، ومنذ هذا اليوم، والفيلم يحصد الجوائز مثل انتشار النار في الهشيم، 74 جائزة حتى الآن من أصل 156 ترشيح، ومازال للحديث بقية، فحجز لنفسه سبعة مقاعد أوسكارية بكل سهولة، ليذهب إلى الحفل واثق الخطى يمشي ملكًا، يعلم جيدًا أنه سيتوج في أي من الفئات الستة المرشح لها، والجوائز الأقرب للفيلم حسب اعتقادي هم: أحسن ممثلة، أحسن ممثل مساعد "سام روكويل"، وأحسن سيناريو أصلي، تلك الثقة التي يتحلى بها الفيلم مع الحفل المنتظر لا تدعو للغرابة على الإطلاق، فالطاقم التمثيلي حصد الجائزة من قبل في حفل عام 1997، عن طريق بطلته "مكدورماند" من خلال دورها الرئيسي في فيلم فارجو، هذا بجانب سبعة ترشيحات أخرى سابقة لكل من: "مكدورماند" برصيد ثلاثة ترشيحات، "هارلسون" برصيد ترشيحين، وترشيح وحيد لكلًا من "لوكاس هيدجيس" ابن البطلة، "جون هوكس" الزوج السابق للبطلة، كل هذا بخلاف ترشيحات العام الثلاثة.
أما مخرج العمل الأيرلندي الأصل "مكدونا" فيملك باعًا ليس بالقصير مع الأوسكار، فقد فاز بها من قبل عن فيلم قصير يتيم لم يصنع غيره، قبل أن يسلط ضوء إبداعه نحو الأفلام الطويلة، فترشح لجائزة أفضل سيناريو أصلي عن فيلم "في بروج" في حفل عام 2009، حتى جاء فيلم "ثلاث لوحات إعلانية" ليقتنص الترشح الأول للمخرج في فئة أفضل فيلم سينمائي بجوار ترشحه الغير مُختلَف عليه لجائزة أفضل سيناريو أصلي التي تنتسب إليه بكل تأكيد، لكن المثير للجدل هنا، وهذه طبيعة متأصلة في حفلات الأوسكار، هو عدم ترشحه من قبل لجائزة أفضل مخرج، خاصة مع الفيلم محور حديث المراجعة، لاسيما وأنه جمع بواسطته جائزة أفضل مخرج في مهرجان الجولدن جلوب، وهو المهرجان الذي يلي الأوسكار من ناحية الأهمية، فكيف يفوز هنا ولا يترشح حتى هناك؟
"ثلاث لوحات إعلانية" هو فيلم يجبرك على التفكير وتوقع الأحداث المقبلة أثناء المشاهدة، لكنك ستفشل تمامًا لمجرد المحاولة، ففي كل مرة ستعتقد مخطئًا بأنك تعلم كيف ستسير الأمور في باقي الأحداث، ستواجه مفاجأة تجعلك تعيد حسابات ما كنت تعتقده، ليتحول الفيلم إلى سلسلة من المفاجآت وحبس الأنفاس، حتى فيما يتعلق بالأخلاقيات، فعلى الرغم من مضمون الرسالة الإيجابية للفيلم، الذي سيدفعك لإحداث تغيير في كل ما هو خاطئ في عالمك، إلا أن محاولات هذا المضمون ذهبت أدراج الرياح مع مشهد النهاية المفاجئ، فالنهاية تعتبر دعوة صريحة للثأر والانتقام في حال تأخر العدالة عن اتخاذها المجرى الطبيعي، لكنني لا أجد غضاضة في أن أعترف بإعجابي الشديد بتلك النهاية من الناحية الفنية، لاسيما وأنها تحمل تحالفًا غير متوقع.