أعتبِر (وولتر وايت) بطل مسلسل "Breaking Bad " ظاهرة فنية تستحق التأمُل و ليس مُجرَد شخصية خيالية، فهذه التركيبة المقعدة من المشاعر المتضاربة والصفات الإنسانية المختلفة لا يُمكن اختزالها في كلمتي (شخصية) و(خيالية)، فقد تعدى وجوده ذلِك بمراحل حيث أن واقعيته تتحدى الحاجز الرابع، وتلخيصه للوجود البشري كُله يتحدى أي كاتب يُفكِر في خلق شخصية على درجة عالية من التماثل مع النفس البشرية الغامضة بكل ما تحويه من تقلبات و تعقيدات.
و هذه السلسلة من المقالات هي محاولة لسبر أغوار هذه الشخصية، هذه الظاهرة التي يجِب على كُل دارس للفن وعامل به أن يتوقَف عندها.
بدايةً فشخصية (وولتر) هي شخصية تراجيدية صِرفة، (فالتراجيديا) هي باختصار عمل فني يُقَدِم سلسلة من الأحداث المأساوية متتبعةً سقوط البطل الرئيسي نحو الهاوية، وغالباً ما يكون بطل التراجيديا شخصية ذات صفات مُمَيَزة وإمكانات تجعله مرشحاً قوياً للنجاح؛ ولكن يختار المؤلف أن يضغه في صراع مع قوى أكبر منه، فمن هنا تتولد القوة الدرامية الحقيقية للتراجيديا.
وهنا يختار فينس جيليجان مؤلف المسلسل أن يضَع (وولتر) في صراع محسوم مع السرطان أو بمعنى أصَح مع الموت، ولكن لأن كما سبَق وذكرنا (وولتر) ليس شخص تقليدي، وهو شديد الذكاء و(برجماتي) أي عملي لأبعَد الحدود، فهو لا يخشى الموت لذاته وإنما يخشى أن يموت دون أن يترُك ما يكفي من المال لأسرته التي يعتز بها أشد الإعتزاز، ومن هنا تبدأ سلسلة من الإختيارات الغير موَفقة التي يقوم بها (وولتر) من أجل توفير مستقبل آمن لأسرته، ولكن النظرية تختلف عن التطبيق؛ فأنتَ لا تدخُل عالم صناعة وتجارة المخدرات دون أن تتلوَث يداك بدَم منافسيك، وهذا ما يُدركه (وولتر) من بداية عمله كصانع لمُخدِر الـ(ميثيمفيتامين) ولكنه يحاول التحايُل على ظروف هذا العالم الدموي حتى يتسنى له أن يجني المال دون أن يُريق الدماء.
المبهر حقاً في (Breaking Bad) ليس ما يوجَد في الإطار بل ما يوجد خارجه؛ فإطار القصة او (الحدوتة) يُظهر لنا نحو سنتين فقط من أصل حوالي 52 سنة من حياة (وولتر)، تبدأ (الحدوتة) مباشرة بيوم يكتشِف (وولتر) حقيقة إنه مريض سرطان، وهذا بالضرورة يجعلَك على عِلم بأين سوف تنتهي هذه (الحدوتة) وعند أي نقطة سيتوقَف السرد معلناً نهاية المسلسل، ولكن هذا الإطار القصصي الذي يدور في سنتين فقط من زمن حياة (وولتر) يتخلله تفاصيل من الماضي، ماضٍ هو ما أوصَل (وولتر) إلى هذه النُقطة، فمن رأيي الشخصي إن إختيارات (وولتر) السيئة لم تبدأ مع إصابته بالسرطان بل من قبل ذلك؛ ففي الموسم الأول تظهر شخصيتا (جريتشين) و(إليوت)، ونعرف أنهما عالما كيمياء وزميلين قديمين لـ(وولتر) ونكتشف أنه –وولتر- كان يُحِب (جريتشين) في حين أنه كان شريك (إليوت) في تأسيس شركة إسمها (جراي ماتر)، ولكن لأسباب لا نعلمها مُنيت علاقة (وولتر) و(جريتشين) بالفشل وتزوجتْ (جريتشين) من (إليوت) وعند هذه النقطة قرر (وولتر) الإنسحاب من حياتهما مُتنَحياً عن منصبه كأحد مؤسسي (جراي ماتر)، والتي سوف تصبح في المستقبل شركة كبرى تُدِر ربحاً هائلاً للعاملين بها وذلك –حسب وجهة نظر وولتر- جله بسبب جهوده العلمية، وما يجعل المشاهد يُصدِق نسخة (وولتر) من الحقيقة هو شغفه الحقيقي بالكيمياء، وذكاءه وعلمه الشديد بأدق تفاصيلها، هذا الإختيار الغير موفَق يترُك (وولتر) للتدريس بمدرسة متوسطة بدخل متوسط وقد رضي بهذه الحياة المملة المتوسطة التي لا تليق بشخصه وذكاءه، وعند نقطة بداية المسلسل يأتي السرطان ليس كشَر ولكن كجرس يُنَبِه (وولتر) وكبرياءه وذكاءه معاً إلى حقيقة أنه هو وعائلته يستحقون ما هو أكثر من ذلك.
إذاً يُمكننا هُنا أن نقول أن صراع (وولتر) لم يكُن مع السرطان كما نتوهَم من النظرة الأولى، وإنما جاء السرطان كمُجرَد مُحَفز لصراع الشخصية الداخلي-الخارجي، فمِن ناحية هو في صراع مستمر مع كبرياؤه الذي أفاق أخيراً بعد سُبات طويل وكذلك مع الظروف المادية الخارجية المتمثلة في المرض والموت ونقص المال ومنافسيه الذين سيصطدِم بهم (وولتر) خلال جولته في عوالم تجارة المخدرات، و بذلك عندما نصِل إلى نهاية الموسم الأول وبداية الموسم الثاني من المسلسل نجِد أن (وولتر) قد قطع شوطاً لا بأس به في التحوُل من شخصية تُفضل الـ(مشي جمب الحيط) إلى رجُل خطير ذا حياة مزدوجة فهو رب أسرة ينظُر له الناس مُشفقين لأنه بعد سنتين أو أقل سيكون قد مات بسبب مرضه، ومن الجانب الآخر هو قاتل وصانع ومُموِل لمُخدر (الميثيمفيتامين) ورجل أصبحتْ العصابات وشرطة مكافحة المخدرات تعمل له ألف حساب، هو ببساطة يبدأ تدريجياً في الإنقسام والتشتُت بين (وولتر وايت) القديم و(هايزنبرج) القاسي والمُرهِب..ولنا حديثٌ آخر في الأجزاء القادمة عن تطوُر هذا الصراع المُركَّب وزيادة عمُق وحِدة دراما (Breaking Bad) حيثُ أن أذى الصراع بين (وولتر) و(هايزنبرج) سيطال الجميع إما عاجلاً أو آجلاً.