لا أعرف على وجه التحديد من أين استقى بعض صناع اﻷفلام تلك الفكرة بأن مجرد الخبرة المسبقة في تقديم أعمال ذات صلة بفن الفيديو Video Art أو التصوير الفوتوغرافي كافية في حد ذاتها ﻷن يُقدم بكل هذه الثقة على اقتحام السينما، حتى لو لم يمتلك ناصية اللغة السينمائية لمجرد أنها تنتمي إلى أو تحتضن كافة الفنون البصرية التي أتوا منها في المقام اﻷول، صحيح أن هذه الفنون لها دور مهم في تشكيل علاقة الفنان مع الصورة التي يرغب في تشكيلها على الشاشة، لكني لا زلت أكرر أن الركون إليها وحدها لا يكفي لتقديم عمل سينمائي، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى عمل مفكك وتائه مثل الفيلم المصري زهرة الصبار أو عمل أكثر تفككًا وأشد تيهًا مثل البحث عن أم كلثوم محل التناول هنا الذي يعرض ضمن فعاليات أيام القاهرة السينمائية.
طوال سير أحداث الفيلم -إن كان هناك ما يمكن تسميته هنا بالأحداث من اﻷصل- يدرك المُشاهد بسهولة أن مخرجة الفيلم شيرين نيشات لا تعلم على وجه التحديد ما الذي تريد أن تقدمه في فيلمها هذا، ومن الواضح أن هذا التيه قد استمر معها حتى خلال تقديم الفيلم: هل هى تنشد اسكتشاف رمز فني غريب بالكلية عن ثقافتها اﻷصلية؟ أم تحاول تقديم سيرة وجيزة ﻷم كلثوم بالتوازي مع رحلة المخرجة لصناعة فيلمها عنها؟ أم تنشد اختبار تجربة جمالية مختلفة وغير معتادة عن حياة أم كلثوم وعن الفترة التي عاشتها؟
ما يؤكد على حالة التيه التي يتخبط الفيلم بين جنباتها أنه -مع اﻷسف- يأخذ كل شيء من السطح، فلا يتجاوز بتاتًا الصورة الذهنية المعروفة والحقائق المتداولة لدينا عن أم كلثوم، بل واﻷسوأ من ذلك أنه يقدمها في هيئة بالغة الافتعال ومفرطة المثالية، كأنك تسمع شعرًا كلماته مألوفة لديك بحكم الاحتكاك بالثقافة، لكنك تسمعه بصوت يخل بموسيقى هذا الشعر، وهو الانطباع الغالب على صورة الفيلم، صورة براقة جدًا في إطار لا يتماشى مطلقًا مع الصورة.
في الحقيقة، يبدو أن هذا اﻹمعان في التنميط والتسطيح الذي يمارسه الفيلم في تعامله مع أم كلثوم يحمل في باطنه ملمحًا استشراقيًا للغاية، الفيلم يهتم إلى أقصى حد بالمظاهر التي تبدو عليها هذه اللحظات المختارة من حياتها، لكنه يتغافل تمامًا عن روح هذه اللحظات، كأنه يضع في اعتباره ما يحب المشاهد الغربي أن يراه في أم كلثوم وفي هذه الفترة التاريخية المفضلة بالتأكيد.
وعندما ننظر حتى للخط الدرامي الخاص بالمخرجة، نجده هو اﻵخر خطًا فائق التسطيح والتنمطي في تقديمه، واﻷدهى امتلائه بفراغات مزعجة جدًا حتى للمشاهد المتذوق لسينما اﻵرت هاوس Art-House بمختلف مدارسها، فهذا الخط لا ينجح في اﻹجابة عن أي من اﻷسئلة التي يطرحها، وعلى رأسها: لماذا أم كلثوم على وجه التأكيد؟
كما يفشل هذا الخط في خلق الاهتمام بأزمة المخرجة المغتربة عن وطنها وعن ابنها، ﻷنه يجنح إلى اختيار أسهل الخيارات الخاصة بالتفاصيل المصاحبة لهذا الخط (تأمل من الشرفة، مكالمة تليفونية عابرة.. الخ) ولا يتعب نفسه للبحث عن تفاصيل فارقة أكثر بالنسبة لنا كمشاهدين، ناهيك عن المعلومات المبتورة وغير المكتملة عن أزمتها مع ابنها.
بل حتى القالب الذي تُوضع فيه اﻷحداث (فيلم داخل فيلم) لم يفلح في إنقاذ عثرات الفيلم العديدة، بل على العكس، فقد عزز أكثر فأكثر من انفصال المشاهد عما يشاهده، دون إدراك حقيقي لما يريده الفيلم في نهاية المطاف، ويتركنا سارحين مع بطلتيه صوب البحر اللامنتهي، دون وجود سفينة تقلنا ودون وجهة تأخذنا إلى مدينة بعينها.