المقال نتاج ورشة النقد السينمائي التابعة لـ "ستوديو ذات" تحت إشراف الناقد أحمد شوقي.
جراحنا التي لم تندمل، إن لم تجد من يداويها، تظل تؤلمنا وتؤرقنا حتى نعجز عن كتمان الأنين، تفجر بداخلنا "ثورة تولد من رحم الأحزان"، ولكنها ليست الثورة التي كان يقصدها نزار قباني يوماً وهو يتغنى في إحدى معشوقاته من المدن- بيروت ست الدنيا- متوسلاً إليها لتستعيد عافيتها عقب انتهاء الحرب الأهلية عام 1990؛ بل ثورة غضب لا تقيم وزناً لمواءمات السياسة بقدر ما تفرغ شحنات الكراهية والتنابذ وعذابات الماضي.
بمشرط جراحٍ بارعٍ يفتح المخرج والمؤلف اللبناني زياد دويري تلك الجروح ليحاول مداواتها في فيلمه الجريء "قضية رقم 23" أو المعروف دوليا باسم "الإهانة" والذي عُرض ضمن فعاليات الدورة الـ74 من مهرجان فينيسيا السينمائي، ونال إشادة كبيرة وحاز عن دوره به الفلسطيني كامل الباشا على جائزة أفضل ممثل، ثم عرض الفيلم في مصر بالدورة الأولى لمهرجان الجونة السينمائي في سبتمبر الماضي ونال الجائزة الفضية للمهرجان، ليتوج باختياره ضمن القائمة النهائية لترشيحات أفضل فيلم أجنبي للفوز بجائزة الأوسكار في الدورة 90 كأول فيلم لبناني يتم ترشيحه فى هذه الفئة.
يبدأ زياد دويرى فيلمه بحادث عارض يجمع طوني (عادل كرم) اللبناني صاحب مرآب لتصليح السيارات في منطقة فسوح ذات الأغلبية المسيحية في بيروت والمهندس ياسر (كامل الباشا)، الذي يعمل في شركة كلفتها إدارة الحي بترميم المنازل، بتفقد المخالفات في الشارع حيث يقيم طوني. خلاف يبدو بسيطا لأول وهلة لكنه يحرك ما يطلق عليه درامياً “The Butterfly Effect"، أى أن «معظم النار من مستصغر الشرر». يحمل ذلك الحادث ثقل سنوات من الضغائن. طوني علم من لهجة ياسر التي تناهت إلى مسامعه أنه فلسطيني فقرر أن ينفس عن غضب مكبوت. ويتصاعد الخلاف سريعا بين الجانبين ويخرج عن إطار السيطرة ويصل إلى الجملة الحاسمة على لسان طوني في فورة غضبه لياسر: "يا ريت شارون محاكن عن بكرة أبيكن". يتخذ دويري من هذه الجملة وتداعياتها وبكل إحالاتها للحرب الأهلية اللبنانية نقطة بداية، ويمسك مشرط الجراح ليصل إلى قلب العطب المسكوت عنه في بلاده، فجميع القضايا التي تعود للماضي يُخشى الخوض فيها حفاظا على السلام العام. ولكن دويري لا يخشى ذلك، ويتبدى لنا أنه يرى أن التخلص من القيح الذي يملأ الجراح خير سبيل للشفاء.
ينتقل الفيلم إثر ذلك إلى دراما تدور أحداثها في قاعة المحكمة، وتتحول المحاكمة من محاولة البت في حادث فردي إلى البت في تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية بأسرها. وينأى الفيلم بنفسه عن تقسيم الحياة والساحة اللبنانية إلى ضحايا ومذنبين أو إلى أخيار وأشرار، فلا ثنائيات ولا إلقاء لوم. لكل ألمه وعذاباته التي يمكن من خلالها فهم شخصيته وتوجهاته.
لكل من الجانبين جروحه الدفينة التي يبقيها سرا في محاولة العيش في الحاضر ولكن التاريخ الشخصي لكل منهما لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن تاريخ بلديهما. ياسر يحمل كل جراح اللاجئ الفلسطيني، المبعد عن داره وعن سياقات بلد الملجأ على حد سواء، ويحمل طوني كل جراح الحرب الأهلية في بلاده. تفشي القضية أسراراً وتكشف عن صدمات عديدة، فضلاً عن الإعلام المحيط بالقضية الذي يدفعها بإصرار نحو حافة الانفجار، مما يضطر طوني وياسر إلى إعادة النظر في حياتهما وأحكامهما المسبقة.
أجمل ما في هذا الفيلم هو أنه يحملنا على التفكير فيما تعودنا على اعتباره مسلمات غير قابلة للنقاش وعلى رأسها شعارات التضامن العربي، غير أن قليلاً من التأمل وتغليب العقل يجعلنا نرى الأمور في سياق مختلف. الفيلم تخلى عن الخطابة والمزايدة وقدم حواراً من أرقى وأصدق ما يمكن. مرافعات المحكمة شديدة الدقة على طريقة الأفلام الأمريكية، يحركها المنطق حتى مع استشهاد الخصوم بحوادث لا تحرك سوى العواطف الجياشة، تدار بإيقاع لاهث لا يترك المشاهد في لحظة ملل.
ليس مهماً أن تتفق أو تختلف مع المضمون السياسي الذي يقدمه الفيلم. حكم المحكمة ليس هو المحك، بل حالة المصالحة التى يتبناها صناع العمل. هى دعوة لأجيال العرب القادمة لمشاركة الأحلام والآلام، طوى صفحة الماضي والنظر إلى الأمام، ربما ننجح ولو لمرة فيما فشل فيه السابقون.