إن أهم شيء يميز فيلم Tabu (إنتاج سنة 2012) للمخرج البرتغالي المميز ميجيل جوميز، أنه يقدم درسًا سينمائيًا وفنيًا في كيفية اقتباس الأعمال القديمة، إذ يقتبس في فيلمه هذا فيلمًا صامتًا قديمًا، فيلم Tabu: A Story of the South Seas (إنتاج سنة 1931)، من إخراج أحد أعلام الانطباعية الألمانية فريدريك مورناو (بالتعاون مع الاب الروحي للأفلام الوثائقية روبرت جاي فلاهرتي)، فيلم قال عنه المخرج الفرنسي الشهير إيريك رومير (أحد مؤسسي الموجة الفرنسية الجديدة ومجلة كراسات السينما)، أن مخرجه فريدريك مورناو أعظم صانع سينما في التاريخ، وأن هذا الفيلم أعظم أفلامه.
تدور قصة الفيلم الأصلي حول ماتاهي وريري، العاشقين البدائيين، اللذين تصل قصة حبهما طريقًا مسدودًا، حينما يختار أكابر القبيلة ريري كخادمة عذراء للآلهة، مما يحرم على أي رجل أن يلمسها، وهو ما لا يتقبله العاشقان، ويدفعهما للهرب من جزيرتهما إلى جزيرة أخرى قريبة خاضعة للمستعمر الأبيض، ولكن هذا لا يجعلهما في مأمن، إذ سرعان ما يعثر عليهما أهل قبيلتهما، فيرسلون رسالة لريري مفادها أنها إن لم تسلم نفسها لهم سيقتلون ماتاهي، وهو ما ستفعله ظنًا منها أنها تحميه، لكن ماتاهي يرفض ذلك ويسبح وراء القارب الذي يحمل ريري في عودتها، حتى يتعب ويغرق.
ينتمي الفيلم الأصلي إلى تصنيف سينمائي يعتبر إرهاصًا مبكرًا "بالواقعية الجديدة"، تصنيف "الخيال الوثائقي Docufiction"، الذي تمتزج فيه الحبكة الدرامية الخيالية بأهداف وثائقية تسجيلية، تهدف هنا إلى توثيق واقع القبائل البدائية في تاهيتي، وتعاملها مع المستعمر الأبيض. ولكن الحبكة الدرامية للفيلم، كان لها أهداف أخرى، وهي الإجابة على سؤال "أيهما أسعد إنسان الحياة البدائية أم إنسان الحضارة؟"، وستأتي نهاية الفيلم فلسفية بعض الشيء، إذ سترى أن الشقاء الإنساني قدر حتمي لإنسان الحضارة والبدائية على حد سواء، ولا خلاص لنا إلا بالحب، الذي سيقدم لنا سعادة مؤقتة وسط هذا الشقاء.
يقوم جوميز في فيلمه Tabu، بتصوير فيلمه بالأبيض والأسود في لمسة وفاء للفيلم مورناو الأصلي، ويقوم أيضًا بالمحافظة على أهدافه، بمساريه التوثيقي والدرامي، فنراه يوثق الحياة البدائية وعلاقتها بالاستعمار، لكن في المستعمرات الأوروبية في أفريقيا هذه المرة، ويحاول الإجابة على ذات سؤال الفيلم الأصلي (وينتهي إلى ذات النتائج)، لكن هذه المرة على خلاف الفيلم الأصلي، يقوم بهذا من زاوية المستعمر الأبيض لا البدائيين.
ويقسم جوميز فيلمه إلى قسمين "ما بعد الجنة" و"الجنة" على غرار تقسيم مورناو لفيلمه. ونرى في القسم الثاني "الجنة" من فيلم جوميز قصة عشق محرم (تابوهي) أخرى، يمكننا رغم اختلاف أحداثها بشكل كلي عن الفيلم الأصلي، أن نلاحظ أن كل مشهد فيها تقريبًا يحمل إحالة له بشكل شديد الوفاء، وكأن هذا القسم يحمل ذات هيكل الفيلم الأصلي، والمختلف هنا ليس إلا الشكل الخارجي فقط، فمثلًا بدل التابوه القبلي في الفيلم الأصلي، يستخدم جوميز تابوه الزواج المسيحي هنا، وهكذا.
ومن الجدير بالذكر أن هذا القسم أتى صامتًا، إلا من صوت راوٍ يروي الأحداث، هو هنا العجوز فينتورا (أحد طرفي قصة الحب المحرم) الذي يسترجع ذكرياته، في محاكاة تقنية كلاسيكية أيضًا لفيلم مورناو الصامت من الناحية الظاهرية. لكن نظرة معمقة تكشف أن الأمر ليس مجرد خيار شكلي وتحية للسينما الصامتة والفيلم الأصلي، بل وخيار سردي بامتياز إذ يمنح الفيلم جوًا أدبيًا وحميميًا، فلا شيء أصدق وأكثر تأثيرًا من سماع عاشق عجوز يروي من ذاكرته لمدة ساعة قصة حب حياته!
أما القسم الأول من فيلم جوميز، والذي حمل اسم "ما بعد الجنة"، فهو قسم لا وجود له في الفيلم الأصلي، ويضيفه جوميز للإجابة عن السؤال الذي تثيره نهاية الفيلم الأصلي، وهو "كيف ستكون حياة ريري بعد أن اختارت العودة إلى قبيلتها؟"، فنرى في هذا القسم الذي تدور أحداثه في العاصمة البرتغالية لشبونة، الأيام الأخيرة من حياة العجوز أورورا (عشيقة فينتورا السابقة والطرف الثاني في قصة الحب المحرم المسرودة في النصف الثاني من الفيلم)، ونتعرف على كيف سارت حياتها بعد أن اختارت الامتثال للتابو، وهجر فينتورا حب حياتها.
ويتم تصوير أيام أورورا الأخيرة من زاوية جارتها "بيلار"، وهي امرأة طيبة، تعيش وحيدة باختيارها، وتشغل وحدتها بالاهتمام بالآخرين (مثل أورورا)، وبعملها كمحامية، وبنشاطات مثل المشاركة في مظاهرات للتنديد بجرائم الإبادة الجماعية في أفريقيا، رافضة الوقوع في الحب، وكأن الحب فعل محرم "تابوهي"، رغم أن صديقها الرسام لا يدع فرصة تمر دون أن يبدي لها إعجابه بها، ويهديها لوحاته، لكنها تكتفي باعتباره صديقًا لا أكثر.رواية الأحداث في النصف الأول من الفيلم من زاوية بيلار، ومن ثم تصوير النصف الثاني على شكل قصة يرويها فينتورا لبيلار، سيجعلنا في نهاية الفيلم نتساءل -كما جعلنا مورناو نتساءل نهاية فيلمه- "كيف سيكون رد فعل بيلار بعد سماع قصة أورورا؟"، سؤال سيتركه جوميز معلقًا بدهاء. عن نفسي أعتقد أنها ستعود إلى لوحات محبها الرسام، ستعلقها على جدران شقتها –وهي التي ركنتها في المخزن-، ثم ستواعده لتصارحه بأنها تحبه، أو على الأقل آمل ذلك.
يشبه هذا البناء المركب للفيلم الحياة نفسها، الماضي يشكل الحاضر، وحياة الآخرين تؤثر في حياتنا، ويمنح الفيلم ثراءه وطبقاته المتعددة. ما يقوم به جوميز في الفيلم درس يستحق الوقوف عنده طويلًا في كيفية اقتباس الأعمال الكلاسيكية، فهو يحافظ على الفيلم الأصلي كأهداف وتقنيات بل وحتى كحبكة، لكنه مع ذلك يتوسع عليه، ويأخذه إلى أبعاد جديدة. فمثلًا إن كان الفيلم يناقش التابوه الديني في الحب، فإن جوميز يناقش التابوه الديني (ممثلًا بقصة أورورا وفينتورا) أيضًا، ويضيف إليه التابوه الذي نصنعه بملء إرادتنا (ممثلًا بقصة بيلار والرسام).
ما يقوم به جوميز في الفيلم أشبه بنساج يعيد نسج منسوجة قديمة، ثم لا يكتفي بذلك، بل يستسلم لغواية الخيوط المتدلية من أطراف المنسوجة، ليكمل النسج وراء حدود المنسوجة القديمة، ناسجًا من خيوطها تتمة تحمل روحها وروحه. وكأي نساج أو رسام، وسواء كان ما يعمل عليه عملًا أصليًا أو اقتباسًا، لابد أ ن يضع توقيعه على طرف عمله، والتوقيع الذي يدسه جوميز في الفيلم، هو لمسات الواقعية السحرية التي تميز سينماه (والسينما البرتغالية والأمريكية الجنوبية عمومًا)، ولا نرى لها أثرًا في فيلم مورناو الأصلي.
وتتجلى هذه الواقعية السحرية، في قصة "البرولوج" التي يفتتح بها جوميز فيلمه، وتتحدث عن مستكشف برتغالي في القرن التاسع عشر، يهرب إلى أفريقيا في مهمة استكشافية، هربًا من حزنه على وفاة زوجته، لكنه يعجز عن نسيانها، فينتحر برمي نفسه في أحد أنهار التماسيح، لتنتشر أسطورة وسط الأفارقة عن شبح لامرأة أوروبية تتجول في الأدغال رفقة تمساح يبكي. وسيعود جوميز لاستخدام موتيفة التمساح هذه في النصف الثاني من فيلمه بطريقة واقعية سحرية، جاعلًا منه رمزًا للقدر الرحيم الذي سيجمع العشاق ويربطهما، قبل أن يقررا التنكر له، وصنع قدر متوحش لأنفسهما بأيديهما!
ختامًا، بقي أن أشير أن ما قدمه جوميز في هذا الفيلم لم يكن إلا بروفة لأهم أفلامه، الذي سيصدر بعد ذلك بثلاث سنوات، فيلم Arabian Nights (مكون من ثلاثة أجزاء)، والذي سيقتبس من خلاله قصص "ألف ليلة وليلة"، لكنه هذه المرة سيصورها في البرتغال المعاصرة بشخصيات معاصرة!