بدى الزحام الرمضاني هذا العام أقل من الأعوام السابقة، وتشابهت الأعمال في فكرتها الرئيسية فإما محاربة الإرهاب، أو محاربة الفساد وتجارة الأثار والأعمال المحرمة، وسواء هذا أو ذاك فكلاهما يحوي مشاهد عنف وإثارة قد لا يحبذها البعض، وأعمال أخرى تتناول الأسرة والأمراض النفسية والمشاكل الاجتماعية العامة، فكان من اليسير على المشاهد اقتناء أعمال ليتابعها حسب ذوقه ورغبته؛ وبين هذا التشابه سطعت شمس الليالي! فتفرد ليالي أوجيني عن الجميع، لذا وجب السؤال ما سر هذا التفرد؟ كيف غرد بعيدًا عن السرب فحلق! وكان إرجاء السبب لاختيار الأبطال ظلم كبير للعمل – فعلى قدر براعتهم وتمكنهم من أدوارهم، واختيار كل نجم في مكانه المناسب وثوبه المناسب تمامًا – فأن الكثير من العوامل قد تضافرت ليظهر لنا ليالي أوجيني فريدًا متفردًا!
من الأسس المتعارف عليها لنجاح أي رواية، هو وصف التفاصيل بشكل دقيق، أو ما يُسمى باللغة الوصفية، فيشمل ذلك الوصف ليس فقط مشاعر الشخصيات أو انفعالاتهم، بل شكل الأثاث، تصميم المباني، والأزياء؛ الأمر ذاته ينطبق على العمل المرئي، فإذا لم يتمكن صناع العمل من وضعه في إطار من الحياة يفقد العمل حيويته، وهذا الإطار يتحقق بالتدقيق في أدق تفاصيل الأثاث كزخرفته وألوانه، وأدق تفاصيل المباني كشكل الأبواب والنوافذ ونقشاتها، خاصةً وأن العمل يناقش فترة زمانية لم نعاصرها سوي في الحكاوي والأقاصيص؛ فكانت التفاصيل أشد ما جذب الكثير للعمل.
ليأتي بعدها فكرة العمل القائمة على هدوء حياة الحقبة وتشابك أحداثها بشيء من السلاسة، لا يعتبر النص رومانسي بحت، أو اجتماعي فقط، بل هو يدمج بين نسيم الحب، وحقيقة الواقع، لذا خرج بصورة عاقلة متزنة لا تنجرف نحو المشاعر فقط، أو القضايا العقلانية فقط.
فماذا يجعلنا نشاهد ليالي أوجيني كل يوم؟ بل ونتوق للحلقة تلو الحلقة؟ فما يوجد بها مشكلة أو قضية نريد أن نصل إلى خيوطها ونهايتها، والقول أن القصة نفسها قضية، ما يثيره الحوار داخلنا قضية، يجب أن تُناقش وتُنتظر من الحلقة للحلقة، فكل حوار خاضه الأبطال خلق داخل المشاهد فكرة، أو ذكره بأمر قد دفنه حتى ينساه، أو أنار له دربًا ما كان يرى له نور، وهنا تكمن عظمة الأعمال، إن العمل الأدبي مقروء كان أو مرئ يجب أن يثير في ذهن المرء فكرة، فإن كانت حلقة بها ألف حدث جديد يثير الترقب والانتظار، دون أن يؤدي هذا الترقب والانتظار لفكرة مُثارة تطرق ووجدانك وروحك، فيُعتبر هذا العمل رتيب لا يُقارن بعمل يطرق في داخلك فكرة كل حديث، وقد ترى ذاتك في وقت ما قد تفوهت بما تفوه به أحد أبطال الليالي؛ لذا المشاهد ينتظر الحلقة تلو الأخرى لأنه ينتظر الفكرة الجديدة التي سيرسخها به العمل، والحوار الذي سيذكره بحواره مع صديق، قريب أو حتى حبيب.
لذا اتهام العمل بالرتابة ما هو إلا جهل بأهمية العمل الأدبي، والسبب الأول لوجود الرواية والمسرح والسينما والتلفاز، واتهامه بأنه قائم على عاتق أبطاله، إنقاص غير مقبول من قدر التفاصيل والحوار الذي لولاه لبدأ العمل في صورة أقل بهاءٍ على الرُغم من عبقرية ابطاله.وعلى أي حال لا يمكن اعتبار العمل قائم فقط على تفاصيل الإنتاج والنص، بل هو أيضًا قائم على تفاصيل الأبطال، فكل بطلًا على حدى بدى مناسب تمامًا لدوره. وقد راهن الكثير على فشل ثنائية ظافر العابدين وأمينة خليل، ودون مبرر واضح سواء تكهنات وسائل التواصل الاجتماعي التي تفضل دائمًا أن تخلق شيء من اللا شيء، ولكن لو حللنا كل نجم على حدى، فيجب القول أن ظافر العابدين تفوق على نفسه في هذا العمل، فقد درّس جيد كيف يكون طبيب، "فريد" هادئ الطباع، قضى حياته بعيدًا عن العالم ولكنه عاش في قلبه، وقد أدت ظروفه إلى المزيد من سوء الحظ، فما كانت لمشاعره سوى المزيد من التجمد والاستكانة بعيدًا عن الضوء؛ ومهما حاول جاهدًا أن يخفق قلبه لزوجته التي مازال يعتبرها زوجة أخيه فقد عجز حتى الآن عن ذلك، تلك المشاعر المضطربة الصاخبة تظهر ببساطة على تعبيرات وجهه ورخامة صوته ونبراته المستكينة المستسلمة للواقع، وما كان له بدٌ من إفراغ أفكاره على الورق، وخلط شخصية الطبيب الجراح بالكاتب، من أصعب المزيج الذي يواجهه الكاتب و الممثل، لأنه يخلط بين النقضين، بين رجل جامد الأعصاب، بارد المشاعر، ورجل أخر تجيش مشاعره على الورق، وتترقرق أعصابه لنسمات الهواء، وقد أتقن ظافر العابدين هذا الدور جيدًا، فأعتبرته طبيبًا مجروحًا هائمًا لم تمنحه الحياة سوى فتات فرص الحُبّ، إلى أن خفق قلبه لكريمة، فتحولت الشخصية وبشيء من السلاسة واليسر وكأنه يقود عربة مجهزة، إلى فتى مراهق يتتبع حبيبته ويتحسس الفرص لينل لقائها.
وإن كان رهان الفشل علىظافر العابدين أشتد قبيل رمضان، فرهان الفشل دائمًا ما يلاحق أمينة خليل في أي عمل أرتحلت له، ودائمًا ما تخرس ناقضيها بأبسط ما تملك، قدرتها على التلاعب بأحبالها الصوتية. دائمًا ما أبديت اعجابي بتلك النجمة، منذ بزغت إلى أن وصلت إلى مراحل النضج الأخيرة، ولكن أشد ما يثير اعجابي هو قدرتها المدهشة على التلاعب بصوتها، فتارة تشعرك كم هي قوية وجبارة، وتارة أخرى تراها منكسرة كطير جريح، ويصل إليك هذا الشعور من صوتها، ليس انفعالاتها أو غضبها أو تعبيرات وجهها فقط، بل صوتها، لذلك يمكنك وأنت لا تنظر إلى الشاشة أن تشعر بما تشعر به كريمة، فتبتسم لصوتها الخجل أمام فريد، وتشفق على صوتها المرتجف وهي تكتب لابنتها؛ هي هكذا كلما أرتفع الرهان على فشلها، كالت لناقديها وفي صمت وعمل جاد مرارة الخسارة؛ وأن فشل الثنائي أصبح درب من الخيال، فقد انسجما لدرجة أن الجماهير تناست أو نست أو حبذت أن تنسِ أنها قصة خيانة أكثر منها قصة حب؛ وذلك النسيان لسببين، الأول شغف الجمهور بحب يجمعهما، والثاني ذهاب شريحة إلا أن زيجة فريد ليست زيجة سوية من الأساس فمباح له أن يحب.
وكلما تشعبت القصص، زاد التعلق بالعمل، فالإشادة بإنجي المقدم تُعد أمرًا محتومًا، في الحلقة الأولى - على سبيل المثال لا الحصر - تحولت من "الخواجية الطليانية" لفتاة مصرية أصيلة في جزء من الثانية وطرفة عين، صادمة متابعيها وراسمة البسمة على شفاههم؛ وتعتبر شخصية "صوفيا" الشخصية الوحيدة الثابتة في العمل بين كل الشخصيات المتغيرة، فهي لا يهزها الحنين، أو تميل مع الهوى، حتى وأن أنكسرت عينيها في لحظات فقد حافظت على قوتها وثباتها، وسر نجاح إنجي المقدم الدائم أنها لا تُمثل! هي لا تصطنع ما تفعله على الاطلاق، تُشعرك أنها لا ترتدي عباءة العمل، بل "صوفيا" شخص حقيقي عاش ذات زمن، لذا لا يمكن أبدًا اعتبار أي من انفعالاتها أو ردود أفعالها مصطنعة أو خاطئة، فهي تتقن الدور إلى حد التكامل؛ وتجلت قدرة "صوفيا" على الثبات في الحلقات الأخيرة أمام والدة عزيز حتى قالت لها: "ما أخرس المرأة العجوز المتحكمة"، ولم تفرغ غضبها بالصراخ أو الانفعال الزائد المبالغ فيه، بل في هدوء وجبروت وقد حافظت على الألقاب والألفاظ بعبقرية متناهية.