رغم بساطة الفكرة التي يدور حولها مسلسل The Walking Dead (الموتى السائرون)، وتقليديها في السينما العالمية، وتكرارها في أدبيات مختلفة، فالمميز في السلسلة -التي بدأت في 2010 ولم تنتهي حتى الآن- أنها تركز على الحوار، ومصائر مختلفة للأبطال، فنحن بصدد عمل درامي لا ينتمي إلى نوعية الرعب إلا في مشاهد قليلة فقط.
فعلى العكس من المتوقع، لا يخوض الأبطال معارك مسلحة مع الزومبي معظم الوقت، بل يخوضون معارك كلامية ونقاشات حادة، حول موضوعات تهم المُشاهِد الطبيعي في العالم الواقعي الذي نحياه. موضوعات متعددة كالخير والشر، وأخلاقية القتل، والانتحار، وجدوى الحياة، وفائدة الموت.
وهذا ما يجعل المسلسل ذاخرًا بجوانب مسلية وممتعة للغاية، لا تزال قادرة على الإنتاج، وتعريضها لمنظورات مختلفة. ويجعل شخصياتِ المسلسل حية، ومفعمة بمبادئ وأفكار قابلة للاختبار طيلة الوقت. أحد تلك الشخصيات شخصية جانبية لم تظهر إلا في موسمين هما الرابع والخامس فقط (2014-2015)، وفي حلقات محدودة.
تدخل شخصية (بوب) في السرد العام في الموسم الرابع، كشخص شريد، وحيد، تائه، يتم انقاذه وجلبه إلى مجتمع السجن الذي كان في طور التمدن، وتبدأ مغامراته مع الفريق بحثًا عن الطعام والدواء، ويبدأ بارتكاب أخطاء أنانية، من خلال بحثه عن الخمر التي سنعلم أنه أدمنها وقت أن كانت الحياة طبيعية –يموت الأشخاص فيها فلا يعودون من الموت-.
يروي (بوب) لأحد الأبطال الآخرين، أنه ملَّ من ممارسة دور المشاهد في المجموعات التي التحق بها حيث انتهى به الامر كناجي وحيد، بل إنه يريد أن يكون جزءًا من تلك المجموعة.ثم تتخذ الأمور منحنى آخر حينما يحب (بوب) (ساشا) ويرتبط بالمجموعة بشكل أكبر، نجد (بوب) يتحدث أحيانًا عن قيمة البشر والبذل للغير، وتعريض الفرد حياته للخطر أحيانًا في سبيل إنقاذ الآخرين، فسيختار أن يعود لإنقاذ حياة المجموعة –المشكوك في نجاتها- على أن يختار الهروب والرحيل مع حبيبته (ساشا).
وتتميز محاوراته مع (ساشا) بطابع خاص من الفكاهة الفلسفية، خصوصًا تلك التي تدور عن طبيعة الخير والشر، ففي كل جانب تستعرضه (ساشا) باعتباره جانب شرير، يستخلص هو الجانب الإيجابي منه، ورغم تعدد الجوانب السلبية التي تعرضها (ساشا) فلم يُكتب له الهزيمة في أي من جولاته الكلامية معها، وحينما كان على حافة الموت، راقدًا على سرير حُمَّى نتيجة العض من أحد السائرين الموتى، يخبرها (بوب) أن ألم الركل في وجهه كان مسكنًا لإدراكه فقدان ساقه وشويها أمامه.
وفي مواجهة صريحة سابقة مع الموت، سينجو منها بأعجوبة، ظل (بوب) متماسكًا، وتقبل فكرة أن خاطفيه بتروا ساقه، وقاموا بشوائها، بينما كانوا يحدثونه ماضغين لحمه المشوي، لم يعلق (بوب) على تلك المسألة، لكن حينما بدأ أحدهم بالتحدث إليه، متوعدًا باقي المجموعة، وانتهى من حديثه متوعدًا (ساشا)، انتحب (بوب) وانهى انتحابه بضحك ساخر مظهرًا كتفه التي تعرضت للعض من قبل أن يلاقيهم، وبذلك يكونون قد أكلوا لحمًا ملوثًا.
تلك التركيبة الفلسفية العجيبة التي امتزجت بشخصية (بوب) رغم بيئة المسلسل التي تبحث عن النجاة والخلاص، بأي وسيلة تطرح تساؤلًا قديمًا في غاية الأهمية.ما فائدة أن تصبح فيلسوفًا؟!
يخبرنا سقراط أن على المرء أن يتحلى بإيمانه الخاص، الذي ينميه من خلال عقله، ويسقيه من صبره على الأحداث، فالانسان يصبح فيلسوفًا حينما يتسق مع فلسفته الخاصة بإداركه لمكانته في العالم، وما يمثله له الواقع، والحياة، والموت، والأخلاق، والمبادئ، والقيم.
قُتل سقراط بفلسفته الخاصة، حيث كان بإمكانه الهرب بعد الحكم عليه بالإعدام، إجراء روتيني بسيط كان كفيلًا بخروجه، وترتيب محكم من تلامذته كان سيساعده على الهرب، لكنه فضَّل البقاء ومواجهة الموت بشرف، بشجاعة، قرر أن يختبر فلسفته ويعطي الدرس الأقصى في الفلسفة، تقبل فكرة الموت، بل والانسجام مع حبكته الخاصة.
ولذلك يحلق سقراط في سماء الفلاسفة كنجم ساطع، على الرغم من انعدام كتاباته، فهو لم يكتب إلينا يومًا، وكل ما عرفناه كان من تلميذه المخلص افلاطون، فقد فضَّل سقراط أن يعطي درسه من خلال أسلوبه في الحياة، واتساق فلسفته العقلية مع تفاصيل يومه، لم يرد أن يكتب لنا أفكارًا لم تنتَج إلا من عقله فقط، بل أراد أن تدون مذكراته الخاصة ككتاب فلسفي، تلك الفكرة تنبه لها أفلاطون فيما بعد، فكتب محاورات عديدة على لسان أستاذه سقراط، توضح لنا أنه امتلك روح التساؤل حتى النهاية، محاولًا أن يرى الأمور من جوانب متفرقة، وكان تأثيره الأكبر في تلاميذه من خلال محاوراته التي تضفي الحكمة على التفاصيل اليومية البسيطة.
وربما تساعد تلك الرؤية لشخصيته في غض الطرف عن بحثه عن الخمر، بل قد تعطي لحبه الخمر تأويلًا مختلفًا، حيث ترمز الخمر في بعض الادبيات الصوفية إلى الحكمة أو الكشف العظيم، وترافق الكتابة الفلسفية أحيانًا، باعتبارها نصف الحكمة.
وبالعودة مرة أخرى إلى فراش الموت، يفيق (بوب) مبتسمًا إلى (ساشا) ويخبرها أنه كان يحلم، حين سألته عن سر ابتسامته، قال أنها كانت تبتسم بدورها له في الحلم، وأخبرها أن الأمر برمته يحمل طابعًا من المعنى، لكنه يلفظ أنفاسه الاخيرة قبل إخبارها.
في النهاية أظنها درامية وذكية من قبل صناع المشهد، فقد أسدى (بوب) نصيحته لـ(ساشا) بالصبر، وألا تفقد المعنى من الأمر، بل أن تبحث عنه بروح فلسفية تحلى بها طوال مكوثه مع المجموعة، وعلى طول علاقتهم القصيرة، في مشهد سينيمائي بلا حوار..
ذلك الحديث الذي وجهه سقراط يومًا إلى حواريِّه، مشيرًا إلى أن الموت كأس كل الناس شاربه، والحياة دين لا بد للإنسان أن يقضيها، حيث قال نصًا: "يا أقريطون إنني مدين بديك لأسكلبيوس، فهل تذكرت رد هذا الدين" والمغزى من ذلك أن الناس كانوا يقدوم إلى أسكلبيوس ديكا حين يشفون من مرض، وهاهو ذا سقراط قد شفي من حمى الحياة التي ما تفتأ تعاود الكائن الحي".
يصبح الواقع قاسيًا بلا تفسير أو مبرر أحيانًا، وتتحكم فيه أبعاد غير منطقية، وتلك بيئة خصبة لتنامي روح متشائمة، او متحللة من أي إيمان أو قيمة تتمحور حولها، لكن في ذلك السياق ربما تظهر روح فلسفية حقيقية تنسجم مع مبادئها الخاصة، وتتقبل القسوة، وانعدام المنطق، كطريقة للسير برؤيتها الخاصة، ولإضفاء معنى متمايز لمبادئها، كما رأى (بوب) أن الحياة العبثية التي تحيط بعالم الواقع، ما هي إلا مجرد كابوس، سيتم تجاوزه، واختبار ما علينا سوى أن ننجح في تجاوزه بذواتنا ومبادئنا الخاصة.