"البحر المتوسط بحر صغير للغاية، إن عظمته وامتداد تاريخه يجعلاننا نتخيله أكبر مما هو الآن، إلا أن الإسكندرية لا يقل واقعها عما يمكن تخيله عنها".
جملة كتبها الأديب البريطاني لورنس داريل في عمله الأيقوني "رباعية الإسكندرية"، ليست فقط هي أشهر ما كُتب عن مدينة الثغر المصرية، وإنما هي التعبير الأبلغ عن البحر المتوسط، هذا المسطح المائي السحري الذي رغم مساحته الجغرافية المحدودة إلا إنه "بالنسبة لثلاثة أرباع الكرة الأرضية، يُمثل العنصر الموحد لمركز تاريخ العالم"، كما قال هيجل في "فلسفة التاريخ".
ماضٍ ممتد نشأت وأينعت وتصارعت وسقطت فيه عشرات الحضارات، وحاضر يعج بكل شيء: استنارة وتخلف، عدالة وديكتاتورية، حراك وركود، وديناميكية ثقافية واجتماعية لا تتوقف عن التأثير في حوض المتوسط الذي يجمع ما يزيد عن العشرين دولة تحمل في مجموعها ـ مع بعض الاستثناءات النادرة ـ قصة حياة العالم القديم.
حاضر لم يعد من الممكن ألا يتجسد في صورة حدث سينمائي كبير تحتضنه الضفة الجنوبية للمتوسط؛ الذي يمتلك شماله أكثر من مهرجان جاد في مونبيليه الفرنسية وروما الإيطالية وسبليت الكرواتية، بينما تعاني المحاولات الجنوبية دون بلوغ مستو مقارب، بعض الجودة لتطوان المغربي، وغياب عن التأثير خارج الحدود لعنّابة الجزائري والإسكندرية المصري، والأخير هو الأقدم في جنوب المتوسط لكنه في حاجة لثورة حقيقية إذ ما أراد الخروج من حيز السينما المصرية المحلية، وبلوغ الانفتاح الثقافي الفاعل الذي لا يجب أن يغيب عن أهداف أي مهرجان سينمائي عمومًا، وعن أي مهرجان يرفع التيمة المتوسطية على وجه التحديد.
من بين مدن جنوب المتوسط لن تجد أفضل من تونس لاحتضان المهرجان الوليد "منارات" (9-15 جويليه)، والذي يشير اسمه بوضوح لأول أداة نشرت النور على شواطئ البحر، وسمحت بالتواصل والتقارب بين شعوبه. تونس العاصمة هي من جهة إحدى منارات العصر الحديث، ومن جهة أخرى هي أكثر الأماكن تعبيرًا عن تلاقح ثقافات الشاطئين؛ فيها تجد الشمال والجنوب مجسدين بوضوح، بعدما تلاقت الثقافتين العربية والأوروبية فأنتجتا المزيج الأكثر انفتاحًا وحيوية في المنطقة. طبيعة تجعل استضافة مديني المليوني نسمة لمهرجان متوسطي فكرة ضرورية، بل وبديهية تأخرت كثيرًا.
صناعة وشراكات وعروض.. وتحدي الخروج عن المألوف
"منارات" أطلقه المركز الوطني للسينما والصورة بالتعاون مع المركز الوطني الفرنسي للسينما CNC والمعهد الفرنسي بتونس، الجهات الثلاث التي اعتمدت اسم المنتجة التونسية درة بوشوشة مديرة فنية للمهرجان. سيدة ذات باع طويل لديها كل ما يحتاجه المهرجان الوليد من أجل النجاح: خبرة تنظيمية في سنوات إدارتها لأيام قرطاج السينمائية، قيمة سينمائية بكونها أحد أهم الأسماء في عالم الإنتاج العربي حاليًا، وعلاقات وثيقة بالعالم الخارجي وتحديدًا بالشراكات الإنتاجية عبر ضفتي المتوسط.
وجود بوشوشة على رأس الإدارة الفنية كفل القيمة الفنية والانفتاح على الصناعة، ونشاط شيراز العتيري مديرة مركز السينما والصورة ضَمَنَ امتداد الشراكات جغرافيًا ونطاقيًا، فهي حكومية ومستقلة، يوروأفريقية وعربية - عربية عبر إطلاق "هيئة مراكز السينما العربية" التي تدشن التعاون المؤسسي بين الجهات السينمائية الرسمية في تونس والجزائر والمغرب والأردن وفلسطين ولبنان، مع انضمام متوقع لمصر يتوقف على إنهاء الموافقات الرسمية.
أما على صعيد مواقع العرض، فقد اتخذت إدارة المهرجان قرارًا راديكاليًا بنقل مركز المهرجان من وسط العاصمة الذي يحتضن أغلب الأنشطة والفعاليات الثقافية التونسية، والانتقال إلى الضاحية الشمالية لتستضيف مناطق المرسى وقرطاج وقمرت أغلب الأنشطة، مع إقامة عروض مسائية كل ليلة على شواطئ المدن التونسية المختلفة: سوسة وبنزرت والحمامات وقابس والمنستير وحمام الأنف. عروض لم يسمح البعد المكاني أن نحضر أيًا منها، لكن ردود الفعل عنها كانت إيجابية بشكل عام.
الانتقال مثّل تحديًا مضافًا للمهرجان، لا سيما في ظل طبيعة خاصة جدًا يمتاز بها الجمهور التونسي الذي يُقبل على عروض أيام قرطاج السينمائية بشكلٍ هائل لترفع جميع العروض لافتة "كامل العدد"، بينما يقل الحضور والإقبال بمجرد انقضاء المهرجان وتعود السينمات مقتصرة على مرتاديها المعتادين، في وضع معاكس تقريبًا لمزاج الجمهور المصري الذي يقبل في الأغلب على العروض التجارية اليومية أكثر من إقباله على أفلام المهرجانات.
الابتعاد عن مركز المدينة مع إقامة العروض في منتصف الصيف المرتبط في تونس أكثر بالسهرات والشواطئ جعل الإقبال الجماهيري محدود نسبيًا. صحيح أن مقارنة أي حضور في أي حدث بجمهور أيام قرطاج السينمائية الهائل هي مقارنة ظالمة، لكن عرض الأفلام ل25 أو 30 مشاهد أمر لم نعتده في المهرجانات التونسية ستعمل إدارة المهرجان بالتأكيد على تطويره في الدورة المقبلة التي تم الإعلان عن موعدها في مطلع يوليو 2019.
يُستثنى من ذلك بعض العروض وعلى رأسها العرض التونسي الأول للفيلم التسجيلي التونسي "الرجل خلف الميكروفون" لكلير بلحسين الذي عُرض لأول مرة في موطن الهادي الجويني جد المخرجة وأسطورة الغناء التونسي والشخصية الرئيسية في الفيلم، ليقابل بحفاوة كبيرة من قبل جمهور ملأ القاعة لمشاهدة الفيلم الذي تعرضنا له بالتحليل في مقال سابق. كذلك شهدت ورشة التمثيل التي أدارها الممثل الكرواتي ليون لوتشيف حضورًا كبيرًا من الممثلين والممثلات الشباب الذين شاركوا المدرب عددًا من تدريبات الأداء المتقدمة.
من كل بلد حكاية.. متوسطية
على صعيد الأفلام امتلك المهرجان فلسفة واضحة يمكن أن يدركها كل من ينظر لقائمة الأفلام المختارة، تتمثل في الانحياز لقضايا حوض المتوسط الساخنة والملحة. فقائمة أفلام المسابقة الرسمية التي قامت بتحكيمها ـ لأول مرة في العالم ربما ـ لجنة مكونة من خمس ممثلات هن التونسية سندس بلحسن، المصرية بشرى رزة، اللبنانية منال عيسى، الفلسطينية منال عوض، والبلجيكية ناتاشا رينيه، هي قائمة مكونة من عشرة أفلام كل منها يعبر بشكل أو بآخر عن موضوع يشغل المنطقة. أفلام أغلبها ليس جديدًا على مستوى تاريخ العرض (بعضها يرجع للعام 2016)، لكن اختيارها موضوعي ومنطقي بالأساس.
الفيلم المتوّج بالمنارة الذهبية، جائزة المهرجان الكبرى، هو "اصطياد أشباح" للفلسطيني رائد أنضوني عن معاناة الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، "السعداء" للجزائرية صوفيا جاما عن أزمة الهوية بين الإسلام والانفتاح الغربي في المجتمع الجزائري المعاصر، "الرجال لا يبكون" للبوسني آلان درليفيتش عن تبعات الحرب الأهلية اليوغوسلافية على نفسية من شاركوا فيها، "أخضر يابس" للمصري محمد حماد عن آلام الطبقة الوسطى المصرية ممثلة في فتاة تفقد نضارتها مبكرًا، الهوية المغربية والحراك السياسي في "غزية" لـنبيل عيوش، ومتاعب العمال الواحدة بين الشمال والجنوب في "شرش" للتونسي وليد مطّار، والعنف الحاكم لعملية الهروب عبر الحدود في "المزيد" للتركي أونور صايلاك.
المثير للإعجاب في الاختيارات السابقة أن أيًا منها لا يمكن تصنيفه كـ (فيلم قضية) من نوعية الأفلام التي تقوم على خطاب سياسي أو اجتماعي يطغى على الجوانب الفنية، وترفع شعار المضمون فوق قيمة الشكل والصنعة. أفلام مسابقة "منارات" على النقيض هي أمثلة واضحة لكيفية جمع الفيلم بين الحسنيين: الإنجاز الإبداعي البصري والسردي، وثراء المحتوى وموائمته للحظة الراهنة. اختيار أسس من اللحظة الأولى هوية مهرجان اجتمع فيه فن السينما مع صناعتها، وتدعمت خلاله شراكات من المتوقع أن تثمر نتائجًا إيجابية، ومنحنا أملًا كبيرًا في مزيد من التطور سنترقبه في النسخة الثانية من المهرجان المتوسطي.