عندما شاهدت أفلام تيم بورتون لأول مرة، لامست شيئًا فريدًا في العوالم التي خلقها هذا العبقري، أفكاره وشخوصه ورسومه والأجواء القاتمة في خيالاته لا تصلح أبدًا إلا أن تكون جزء من كوابيس، وهذه ملاحظة حقيقية، ولا أظن أنني سأجد يومًا ما أحد ينكرها. أما عن الشيء الفريد الذي استشعرته، فهو طريقته في سرد هذا الكابوس، والقالب الشاعري الذي يضع في قصاصته السوداوية، والطابع الحالم الهاديء الذي يجثو في قلب عوالمه، مما يجعلني - شخصيًا - أصف مشاهدة أفلامه بأنها كمثل مشاهدة وحشين يتبادلان القبلات علي ضوء الشموع في جب الليل!
هذه الخواطر أعترتني كثيرًا مؤخرًا بعد أن أثارت فكرة تصوير السوداوية بألوان من الشاعرية اهتمامي، وربما تسللت هذه الخواطر مع تسلسل بداية فيلم Louise en hiver أو "لويس علي الشاطيء"، والذي يروي قصة لويس التي تبقي وحيدة في منتجع علي شاطيء البحر بعد أن تأخرت عن آخر قطار لموسم الاجازات.
فترة طويلة ستمكث فيها لويس وحيدة، وهذا كفيل بتسلل الوحشة إلى قلبها، وعلاوة علي ذلك، يبدأ الطقس يتبدل ويهيج البحر حتي تغمر مياهه أرض المنتجع، ولويس تراقب كل ذلك من النافذة وهي تلتحف في منزلها.
قد يخيل لمن لم يشاهد الفيلم أنه بوادر لفيلم يجتهد ليصنع قصة من قصص أفلام البقاء، فيرسم وحشة من الوحدة وذعر من الطقس، ولكننا نجد لويس تقابل كل هذا بنوع من أنواع الرزانة التي قد تتحور إلي جمود، وستشعر هالات من التأمل في كل ما يحدث لها، وكأنها لا تنصت لما يحدث لها أصلًا بل تزيد في كبريائها الفكري بأنها تستهلك مايحدث لكي تحلق بالذاكرة والخيال!
وهنا تكمن عبقرية جان فرانسيس لاجيني الذي اقتطف تلك التفاصيل ليخلق معالجة جديدة لقصة تقليدية ومستهلكة، بيد أنه انغمس في الحالة التي تحيط بالشخصية وليس الحبكة التي تتدفق من خلالها، ولهذا يسعنا أن نقول أنه فيلم يحاول أن يفهم الشخصية، والتي هي نفسها تبحث بداخل نفسها، وفي النهاية لا تجد أي شيء، أو تظن ذلك، وهذا ما يجعل من رحلة فرانسيس الحالمة مرهقة ومحيرة ومثيرة لمجالات الفكر الانساني المختلفة، قد تتلاقي أحيانًا بصريًا، وربما وجدانيًا بتحفة ستوديو جيبيلي The Red Turtle ، ولكنها أكثر حميمية وقرب للمتلقي علي الرغم من أنها بالطبع أقل فنيًا بكثير من فيلم جيبيلي..
الحالة التي تنتاب الفيلم مستقرة ومتزنة تماما كايقاعه، يخترقها لمسات سيريالية تزداد بالتدريج كلما اقتربنا من النهاية إلي أن تتلاشي تمامًا مع عودة المسافرين إلي المنتجع في موسم اﻹجازات الجديدة كما كانت مختفية عند وجودهم في البداية، وهذا يقودنا إلي حقيقة أن الوحدة تساعد لويس أكثر علي التحرر في الخيال والاستغراق في الحلم واسترجاع الذكريات، وهذه من المحاولات التي سعى جان إليها في محاولته ﻹكتشاف شخصية لويس، وأثناء ذلك تختلط الأحلام بالذكريات، حتي أننا نشك في كل شيء يدور في وجدان لويس، نقطة أخرى تثير الفكر وتضفي انجازًا جديدًا للفيلم، وهو جهوده البصرية في الشحذ القصصي، باستثناء مشهدين أو ثلاثة يمكن حرفيًا إزالة شريط الصوت من الفيلم، وسيبقي المشاهد على دراية بكل أحداثه.
المتتابعات الحُلمية التي تتوارى وراء ذاكرة لويس تأخذ منعطفًا أكثر قسوة بدون أن تتخلي عن الشاعرية، نراها طرفًا في علاقة عاطفية من ثلاثة أطراف، ونشعر وكأنهم كانوا يلعبون الغميضة، ثم نرى جلد الذات في جفون لويس، والذي يتشكل على هيئة محاكمة ربما تذكرني - أنا شخصيًا - بفيلم حدوتة مصرية لـيوسف شاهين، حتى أن محاكماتها لنفسها تبدأ بنسيانها لاسمها كما كان مقرر في بداية السيناريو الذي وضعه يوسف إدريس مع شاهين، ثم تدعي أن جريمتها أنها تنسى، أو تتصرف بجفاء لأنها تنسى، وكأن الذكريات لم تكن، وربما هى اختلطت بالأوهام، لأنها لم تعيرها اهتمامًا ملحوظًا..
مرثيات الحلم والوهم والعزلة، ورفيق صغير يحيك معها تنورة الخواطر، والموسيقى التي كتبها بييري كيلنر مع باسكال لي بينيس تتموج مع البحر الذي يغير صفحاته كلما تدفق فيه الزمن وكلما تبدلت السماء، حتي تكتشف لويس كل يوم شمسًا جديدة في رحلة بحثها عن ذاتها في واحد من أعظم انتاجات الرسوم المتحركة علي اﻹطلاق.