على هامش مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة بدورته العشرون، المُقامَة في أبريل الماضي (۲۰۱۸)، عرض الفيلم التسجيلي "A World Not Ours" أو "عالم ليس لنا" ضمن (البرنامج الذهبي) الذي تقرَّر إدراجه ضمن أقسام المُسابقة، إحتفالًا بالنُسخة العشرون من المهرجان، وقد عُرِضَ في هذا البرنامج أهم الأفلام التي سبق وأن حصدت جوائز بالمهرجان على مدار أعوامها السابقة.. هذا الفيلم واحدٌ منهم.
في العمل الذي يبدأ كواحد من تلك الأفلام الذاتية العادية لمخرجيها، وينتهي بأن كان استثنائيًا بكل الطرق المُتخيَّلة!؛ هناك (وادي الحِلوة)، مُخيَّم بجنوب لبنان يقطنهُ طائفة من اللاجئين الفلسطينيين، وهو الذي يعتبره "مهدي فُليفِل"، مخرج الفيلم، المكان الذي ينتمي إليه.. يسرد إلينا فُليفِل قصة سكان عين الحلوة كراوٍ للفيلم (بالڤويس أوڤر)، ولا يُخطئنا مدى تعلٌّق فُليفِل وغرامه وعشقه لهذا المكان، ولا يُخطئنا أيضًا، مدى شخصية تجربته.. يقول "أصدقائي في أوروبا لم يفهموا قط لماذا أُقضي إجازتي في مكانٍ كهذا، لكن بالنسبة لي، الذهاب إلى عين الحِلوة كان أفضل من الذهاب إلى ديزني لاند".
هذه الذاتية الواضحة على حاكي ومخرج الفيلم، باعتبارِها أهم نقاط تميُّزه عن أي فيلم "تسجيلي" قريبٌ من نوعية حكايته، لا تقتصر على تحويل الفيلم من مجرد سرد قصة مكان لم يسمعه أحدًا تقريبًا من قبل، إلى قصة من القصص التي تُعيد تذكيرنا لماذا نحب السينما (التسجيلية منها تحديدًا)، بما تشمله من روعة وسحر وأهمية ومذاق متفرّد، بل أيضًا تُكسب الفيلم ذاته الكثير من اﻷبعاد أسفل عمقه؛ السياسية والاجتماعية والفكرية، وتجعلنا متوّرطين مع رحلة الفيلم ذات الثلاث وتسعون دقيقة، إلى درجة يصعب وصفها بالكلمات.. معايشة حقيقية للحدث هُنا.
نتابع في قصة هذا التسجيلي حكاية "أبو إياد"، أحد أهم رموز هذه المنطقة؛ الرجل صاحب الكاريزما الكبيرة والشخصية الغاضبة داخله تجاه كل سالب ومُغتصب بحق بلدته (فلسطين).. ومعالجة هذا اﻷمر على الشاشة جاء كأفضل ما يكون؛ حيث حضرت علاقة ديناميكية واضحة بين أبو إياد وبين المكان (لاحظوا أن الفيلم باﻷصل يحكي عن المكان)، وبحيث أهمية الشخصية تأتي من أهمية المكان ذاته ودورها فيه، والعكس بالعكس؛ أبو إياد هو جزء لا يتجزأ من مُخيّم وادي الحلوة، كما أن وادي الحلوة لا يمكن تخيُّلها بدون أبو إياد. لذا، هُنا تكمن روعة اﻷمور؛ أنتَ لا تُشاهد فصولًا ومواقف منفصلة، بل أن كل حدث وكل شيء صغير يحدث في ضواحي هذا المكان، له التأثير اﻵني أو اللاحق على شخصياته، ﻷن هذا المكان أصلًا صغير نسبيًا، لذا، فالجميع متوّرطون بصفة التشارك والتفاعل، سواءً تشارك اﻷوقات الذي يمضونها سويًا، تشارك اﻷفكار، الرغبات، تشارك مُشاهدة التلفاز ومباريات المونديال.. كل هذا كان بمثابة مادة دسمة أمام المخرج الشاب -أحد شخصيات المكان- ليُصوّر ويوثق ما يُعرَض أمامه، بكل ذرة مصداقيّة، وكأنّك تُشاهد أحد برامج التحرّي على"ناشونال جيوغرافيك" حيث الكاميرا المُختبئة التي ترصد اﻷشياء واﻷحداث من حولها!. هذا الشعور يأتي من فرط المعايشة التي تستشعرها، والتي خاضها فُليفِل مع اﻷصدقاء واﻷقارب معظم أيام حياته في هذا المكان، ومنذ أيام صِباه.
مهدي فُليفِل هو مخرج أفلام دانماركي الجنسية، فلسطيني اﻷصل، ولد في دبي عام ۱۹٧۹، وتخرج عام ۲۰۰۹ من الكلية الوطنية للأفلام والتلفزيون في المملكة المتحدة. لعل هذه تلميحة بسيطة لطبيعة شخصية الرجل ذو الجذور المختلفة والهويّات المتعددة، وكونه فلسطينيًا باﻷصل، لا بُد -كما قال هو نفسه في أحد حواراته- أن تجد ملامح فلسطينيّته تلك بأفلامه؛ فلسطين الهويّة، فلسطين الحق، فلسطين اﻷم.
يحكي فُليفِل في فيلمه عن موضوع الهويّة كحال معظم أفلامه؛ فكما هو ذاته لا يُخفي ازدواجيّة هويّته ما بين العربية واﻷوروبيّة، بل ازدواجيّة عروبته ذاتها (حيث ولد في دبي باﻹمارات، تربى في وادي الحلوة بلبنان، أبواه من فلسطين، وعاش بعد ذلك في أوروبا بالدنمارك وفرنسا)، فإن حكاية بطل فيلمه "أبو إياد" هي اﻷخرى لا تخلو من تلك الازدواجيّة. يقول أبو إياد في أحد مواقف الفيلم "أنا لم أعد أملك دولة، أين هي فلسطين اﻵن كي أرد على من يسألني ما هي جنسيتك؟، لبنان وعين الحلوة هي دولتي..".
فُليفِل لم يولَد مهووسًا بالتصوير والفوتوغرافيا، بل اكتسب تلك الهواية من والده الذي كان يعشق تصوير الڤيديو/المنزلي، اﻷمر الذي جعل فُليفِل يملك أرشيف كبير من حياة عائلته داخل المُخيّم اللبناني. في الواقع فُليفِل لم يكن مخططًا لهذا المشروع -بشكله المُنتهي- منذ القدِم، لكنه في صميمه -وكما يقول في إعلان الفيلم الدعائي- دائمًا ما أراد أن يحكي قصةً عن هذا المكان. هذا اﻷمر كان دافعًا له -في عقله الباطن ربما- بألّا يتوقف عن التصوير، تصوير أيُّ شيء وكل شيء حوله.. وعندما وصل لمرحلةً مُعينة اكتشف فيها وجود طنًا من هذه المقاطع والوثائِق المُصوَّرة، قرر حينها صناعة فيلم طويل، يربُطه بإطار قصصي جذاب، ويعرض فيه ماضي وادي الحِلوة وحاضرها، ليُكوّن ثلاث فترات مختلفة للحكي.
اختار فُليفِل أن يسرد قصته -الحقيقية- باستخدام اللغة اﻹنجليزية (السرد فقط، ﻷن الممثلين يتكلّمون بالعربيّة)، ليُضيف بُعدًا عالميًّا عليها، ولكي، ربما، يُمَكّن كل أجناس العالَم بمُشاهدة فيلمه والتواصل معه. هذه النقطة قد يعتبرها البعض مأخذًا على الفيلم؛ فلِما تصوير فيلم عربي ذو قضية عربية بسردًا غير عربيّ؟.. شخصيًا وجدتُ استخدام اﻹنجليزية موفقًا، ﻷنه، وباﻹضافة للتيمة العالميّة المقصودة، فإن سرد المخرج للأحداث باﻹنجليزية كان شديد السلاسة بدون التطرُّق للمصطلحات المعقدة، ربما أكثر سلاسةً من لو كان سردًا إماراتيًا أو فلسطينيًا. يجب أيضًا الانتباه بأن بعض اللهجات العربية -كالتونسيّة مثلًا- يجدهم العرب غير مفهومة بالنسبة لهم.
من اﻷمور الطريفة في العمل، أن فُليفِل كان قد صوّر بعد إنتاج هذا الفيلم بأربعة أعوام (۲۰۱۲/۲۰۱٦) فيلم تسجيلي آخر لكن هذه المرة قصيرًا، يُدعى "عودة رجل"، وتظهر بإحدى لقطات "عالم ليس لنا" فيه شخصية بطل "عودة رجل" (الذي هو اﻵخر يدور عن حكاية بطلها إحدى شخصيات مُخيّم وادي الحلوة، والذي هو اﻵخر قد فاز بواحدةً من جوائز مهرجان اﻹسماعيلية: أفضل تسجيلي قصير)، لا تفهم أكان فُليفِل يُصوّر جميع أفلامه في وقت واحد، أم أن فكرة صناعته لهذا الفيلم القصير هي اﻷخرى، ربما، جاءته بعد توثيق لقطات ومواد أرشيفية عنها..!
من الجدير بالذكر أن اختيار فُليفِل لعنوان الفيلم "عالم ليس لنا" لم يأتي اعتباطيًا؛ فالعنوان هو ذات عنوان مجموعة قصصية للروائي الفلسطيني الكبير "غسان كنفاني"، وليس ذلك فحسب، بل استخدم فُليفِل أسلوبًا سرديًا مُشابه للقصص؛ فجاء الفيلم كما لو كان الرواي يحكي عن نفسه في صورة شخصيات قصته، وأن القصة أقرب في أسلوبها بأن تكون رسالة أو يوميّات مُدوَّنة.. وهو المُشترك مع أسلوب سرد قصص كنفاني القصيرة.
في رأيي هذا النوع من التسجيليات شديد اﻷهمية، بالعموم كل التسجيليات واجبة المُشاهدة، لكن فيلم كهذا له بُعدًا آخرًا كونه يناقش العديد من المواضيع الجذرية في العقل الجمعي اللاواعي للعرب؛ كالانتماء والهويّة والوطنية والحرية وغيرها. كما أن محور حكايته هي القضية الفلسطينيّة.
يُذكَر أن الفيلم -بجانب حصده لجائزة "أفضل تسجيلي طويل" في نُسخة مهرجان اﻹسماعيلية السادسة عشر عام ۲۰۱۳، والتي مكّنتني من مُشاهدته!- قد ترشح لواحدٌ وخمسون جائزة دولية، فاز بسبعٌ وعشرون منها، وقد عرض في مصاف نخبة مهرجانات العالم؛ كتورونتو، برلين، وأبو ظبي.. (وحصل على ثلاث جوائز هامة من اﻷخيرين). يُذكَر أيضًا أن فُليفِل كان له فيلم روائي قصير في هذه الدورة اﻷخيرة من اﻹسماعيلية، لكنه لم يحالفه الحظ بحصد أي جائزة (رغم أن كان فيلمًا جميلًا جدًا!) واكتفى بتنويه خاص.. الفيلم هو "رجل يغرق".
هناك علاقة حميمية ذات مذاق خاص في تجربة مُشاهدة هذا التسجيلي الذي من الصعب نَسَيانه، كما هو من الصعب أيضًا رؤية (تفاصيل حكايته)، و(راويهُ) ككيانين مُنفصلين، أنتَ تشعر كما لو أنّك واحدًا من بيئة الشخصيات في المدة التي تُشاهد فيها الفيلم.. فُليفِل أراد تسجيل "عين الحِلوة" بصورة أقرب للبورتريه التوثيقي، فظهر المكان على هيئة مجتمع أيدولوجي مُصغّر يحمل الكثير من الجاذبية والاهتمام. فيلم تحترمه وتُقدِّر رغبة صانعه العجيبة في نقل هذا الجزء الخاص من حياته، لكن اﻷمر يتعدى هذا بأن يصل إلى درجة عقد تخيُّلات لشكل وأسلوب وحياة هذا الرجل الفلسطيني الرائع، فقط من خلال كلماته الروائية القوية... والنتيجة: أحد أفضل اﻷفلام الذاتية التي رأيتها على اﻹطلاق!