عندما شاهت الإعلان الدعائي لـ(Loving Pablo) أول مرّة، شعرت أن هذا الفيلم سيكون رائعًا وقويًا للغاية. فكّرني بأجواء واحدٌ من الأفلام التي لها مكانة خاصة عندي هو (Sicario) للمخرج الكندي "دينيس فيلنوف"، حيث العصابات وتجارة المخدرات والأمريكَتان.. وعندما نشرت منشورًا في أحد جروبات السينما التي دائمًا ما أقضي وقتي عليها، أعلنت فيه عن ترقُّبي الشديد لها الفيلم، كونه يضم مخرج أسباني الجنسية، وهي نقطة وجدتها أفضلية كي يحصل الفيلم على اهتمامي، وجدتُ أن معظم ردود أفعال أصدقائي سلبية، حيث قالوا أشياء من قبيل "إذا كنت قد شاهدت (ناركوس) المسلسل، فلا داعي لمُشاهدة هذا الفيلم" و"الفيلم قد أخذ مراجعات نقدية سلبية للغاية على معظم المواقع الأجنبيّة"، و"قرأتُ مقالةً عنه أطاحتهُ أرضًا!".. لكنّي لم أهتم، وفي أول فُرصة حقيقية أمامي ذهبت لدار العرض لمُشاهدته وكُلّي حماس وطَمَع بتجربة سينمائية طيّبة على أقل تقدير.
الآن، وبعد أن -أخيرًا- شاهدته، للأسف الفيلم لم يرقى للمستوى الذي أملتُ به. نعم، أصدقائي لم يكونوا يمزَحون، لكن الفيلم ليس كارثيّ. في الواقع الفيلم قد يكون شيّقًا وممتعًا فعلًا عند البعض، لكني وبصفتي "سينيفيل" (أي مدمن مُشاهدة أفلام)، هذا الفيلم لا يمكن أن يُرضي شخصًا مثلي، وعلى ما يبدو، ستكون الكلمات القليلة المُقبلة هي محاولة الإجابة على السؤال الذي اخترتُ أن أُعنون مقالتي به: ما الذي يجعل «بابلو المُحِب» ضعيف لهذه الدرجة؟.. بصورة أخرى: أين تكمُن مُشكلته؟
قبل أي شيء، لا بد من معرفة أن الفيلم ليس "بيوجرافي" بالمعنى المُتداوَل للكلمة، هو يختار أن يسرد فصلًا محددًا من حياة "بابلو إسكوبار" وليس كل حياته (كحال فيلمًا مثل "Ed Wood")، كما يختار رؤية ذاتية -لا موضوعيّة- في سرد قصته؛ وهي سردها على لسان صديقته فيرجينيا فاليجو (كحال فيلمًا مثل "Redoubtable" الحديث).
النقطة السلبية الأكثر وضوحًا لي في العمل، هي عدم وجود (شخصية) ما للفيلم. لا أعلم مؤخرًا ومع تزايد مُشاهداتي لهذا النوع من الأفلام، أهي مشكلةً تواجه كل صانع فيلم يريد تقديم قصة حقيقية، هل هو مُجبَر على اتباع نوع من الحيادية في مواضيع أفلامه أم ماذا؟!.. ما أعرفه هو أنه طالما الفيلم ليس تسجيلي التصنيف، فهو يحمل رؤية مخرجه بشكل أو بآخر. بعض المخرجين -للأسف- يُصِرّوا على تقديم قصصهم البيوجرافيّة مع بعض التحفظ على إضفاء لمساتهم الخاصة. في هذا الفيلم، لم أشعر بوجود (رؤية) في العمل على الإطلاق، اﻷمر كأنك تشاهد تقرير تلفزيوني مُحوّل لفيلم روائي كي يُناسب فئة معينة. شيءٌ لم أتوقعه عندما علمت أن مخرج الفيلم هو الأسباني "فرناندو ليون دي أرانو" (الذي قدم منذ ثلاث سنوات أحد الأفلام التي انتشر الحديث عنها كثيرًا، فيلم "A Perfect Day")، ومجرد عِلمي بأن مخرج العمل أوروبي لا أمريكي، تفاءلتُ؛ لأن عادةً مخرجي أوروبا يكُن لهم الكلمة العُليا في رؤية أفلامهم، لا كحال نظام الإستوديوهات الهوليوودية التي لا تُحبذ وجود هذه الفكرة، فالموضوع في أمريكا يميل إلى الصناعة السينمائية بوصفها سِلعة، وتقليل فرض المخرجين للرؤى الفنيّة ﻷعمالهم.
الفيلم مُفكّك للغاية في هذا المنطلق وليس له (شكلًا) مُعيّنًا يظهر به، التقليدية هي اسمُ اللُعبة معه.
النقطة السلبية الثانية هي أن القصة أصلًا ليست بتلك الجاذبية المعروفة عنها.. لم أشعر، على الإطلاق، أثناء متابعي للقصة أنها قصة حقيقية حدثت بالفعل، لها ارتباطِها بما يمكن تسميته بـ(الإيمان بالقصة)؛ هي تبدو كقصة مكتوبة بالفعل ولم تحدث: "مكتوبة" أي مخصصة للمعالجة الدرامية ومن نسيج خيال صاحبها، لأنك تُشاهد قصة عن تجارة المخدرات وأعمال العنف الكولومبيّة التي من المفترض أن يكون لها وقع الفزع والخوف على أذنيك (كونها أفعال مخيفة فعلًا)، لكن تقديمها لا يتعدى بضع مشاهد تشويقية دون اهتمام بتعميق الصورة المؤديّة أو الناتجة عن اﻷحداث. القصة ذاتها يمكن أن تتسم بالمُبالغة وعدم التصديق، لكن تقديمها على الشاشة لا بُدّ أن يتسم بذلك.
و"لم تحدث"، لأن عنصر المصداقية كان غائبًا تمامًا كنتيجة لسطحية قصةً، تبدو عليها ضرورة التعاطف والتوريط. لاحظوا مثلًا ماذا فعل فيلنوف عندما أراد جذب اهتمام المُشاهد في عملية تجارة الممنوعات بالنصف الثاني من (سيكاريو): لقد أشرَك جانب تورُّط شرطيّ بالعملية، أي تورُّط عائلة مكسيكية كاملة، أي تورُّط الشرطة المكسيكية كلها (كرمز مُصغر لعملية الفساد المستشرية في ربوع المكسيك)، هذا ما يسمى "توريط".. جذب وشد أعصاب تحدث من المُشاهد ناحية القصة التي يُشاهدها. ورغم أن (سيكاريو) ليس مقتَبَسًا عن قصة حقيقية مثلًا، إلا أنه يبدو أكثر حقيقية من (بابلو المُحِب).
صحيح أن هناك رؤىً كثيرة لتقديم الفيلم البيوجرافي (السيرة الذاتية) من الصعب حصرها على نمط واحد، لكن على الأقل ما يمكن الاتفاق عليه أن أفلام البيوجرافي الجيدة تحاول الحفاظ على وَتَرًا محددًا في حكاياتِها كي تواصل أن تكون حكايات جذابة في جانبها الروائي، وحقيقية في جانبها التوثيقي.
هذا لا ينفي حقيقة أن هناك مجهود واضح بذله المخرج في بناء عالم قصته والاهتمام بالتفاصيل؛ الأزياء على وجه تحديد كانت برّاقة للغاية، بعض اللقطات العلويّة كانت رائعة، معظم اللقطات المستخدم فيها ممثلين كولومبيين كانت مُناسبة.
"خافيير بارديم" في دور ممتاز يجسد فيه شخصية إسكوبار، وكانت لتستحق فيلمًا أكبر من هذا. "بينيلوبي كروز" لم تكن سيئة، لم أنزعج منها سوى في مشهد واحد شديد الافتعال والميلودراميّة، جعلني أصحك بصوتٍ عالٍ. تناغم هذا الثنائي كان جيدًا أيضًا في المَشاهد التي جمعتهُما، لكن الأمر لم يصل أبعد من هذا. وقد تبدو عاديتهُما تلك غريبة قليلًا على ممثلان بثقل بارديم وبينيلوبي، ومتزوّجان في حياتِهِما الحقيقية. كنت لتتوقع أنهما إذا اجتَمَعا في فيلمًا واحدًا (رغم أنها المرة الرابعة التي تحدث) سيُقدّمان كيمياء جبّارة، لكن هذا لا يحدث هُنا.
في النهاية كنت لأحب أن أعلم من هو بابلو إسكوبار من خلال هذا الفيلم، لكن يبدو أنه ليس الخيار المثالي. نعم هو يتسم بذاتية سرده التي قد تبدو كميزة، لكنها لا تشفع له بتقديم قصة جذابة، خاصةً أننا نتحدث عن شخصية الرجل الذي يوصف في المقالات بـ"واحدٌ من أباطرة تجارة المخدرات فى العصر الحديث"، وقد صُنع مئات الوثائقيات عنه. فرَغِبَ المخرج بحكي الكثير من الأبعاد في حكاية إسكوبار، ولم تعجبهُ فكرة التركيز/الفوكَس على خط قصصي محدد من حياته المليئة بالمُفاجئآت واﻷسرار، فضاع كل شيء!
يجب العلم أيضًا، أن كل هذا الحديث يأتي من شخص لم يُشاهد حلقةً واحدةً من المسلسل (ناركوس) الذي ذَكَر الكثيرون مدى أفضليّته وعُمقه على هذا الفيلم، فما بالُكم بمن شاهَد؟!