لعل الطريقة المُثلى لبدأ الحديث عن هذا الفيلم هي ذكر حصوله على المراجعات النقدية السلبية التي أطاحته أرضًا. الفيلم حتى كتابة هذه الكلمات، حاصل على موقع "الطماطِم الفاسدة - Rotten Tomatoes" الشهير تقييم "فاسد" بصفر في المائة من واقع تسعٌ وثلاثون ناقدًا. ربما أفضل تعليق جذاب هادم للفيلم على الموقع هو الاقتباس أعلاه، الذي اخترته ليكون مُفتتح المقالة.
حسنًا، من الواضح للعيان أن الفيلم لم ينل إعجاب هؤلاء الـ(نقاد)، ولم يُرضي كثيرون من الجمهور أيضًا. لكن، ما فائدة هذه التقييمات على أية حال؟، وما مدى جدواها ومصداقيّتها عن ما حقًا سوف يستقبله المُشاهد مِن الفيلم؟.. من المؤسف أن مثل تلك المواقع أصبحت هي موضة القرن الجديد للحُكم على جودة الأفلام. أقتبس من مقالة كتبها الناقد "أمجد جمال" في عدد أكتوبر من العام الماضي لمجلة الدوحة، والتي كانت مُعنوَنة بـ«موقع "الطماطِم الفاسِدة": هل يقوّض الثقافة السينمائية؟»: "لقد أصبحت المواقع أمثال 'الطماطِم الفاسِدة' تمثل نوعًا من السلطة على الجمهور وتؤثر على اختياراته في المُشاهدة، ليتحول ما اعتبرناه في البدء ديموقراطية غير منضبطة إلى نوع من الاستبداد الذي استمد نفوذه من مصدر ملتبس. فأصبحت النتيجة مزيدًا من التوجيه غير الواعي وتحجيم الخيارات أمام الجمهور..." ويُكمِل بالحديث عما وصفه بإشكاليّة الطريقة الحسابية والنسبة التقييمية التي يضعها الموقِع: "...هذا النظام الحسابي المُتبع يقف عائقًا أمام الأفلام الطَموحة، تلك التي تُفرّق النقاد، وتُحدث انقسامًا بين المتلقين، إنها الأفلام المُغامِرة التي لا تقبل بالحلول الوسط، وتثور على الأعراف والتقاليد الإبداعية فيصعب استساغها من البعض، لكنها تُدهش البعض الآخر، وتكون في كثير من الحالات هي الأفلام التي تُغيّر مسار السينما".
أظن أن الجمهور لا يريد تجربة ما هو مختلف، أظن أن الجمهور يريد شيئًا محددًا مِن "جوتي" ولم يُشاهدهُ بقوانينهُ هو، بل بقوانينهُم هم. أحد الأفكار التي جاءت على ذهني هي أنّك إن شاهدتَ فيلم من المستوى الثاني (B-Movie) وعاملتهُ كفيلم من المستوى الأول، بالتأكيد لن يُعجِبُك، هناك نوعٌ ما من التماهي والايهام يجب عليك، إن كنت حقًا مُشاهد للأفلام أو ناقد أو أيًا كان، أن تضعه دائمًا في الحُسبان، وهذا يُحدده طبيعة الفيلم ذاته، لا شيء آخر.
هذا ما أعتقد أنه حصل في المعاملة النقدية القاسية مع هذا الفيلم؛ هو عَمَل سينمائي جيد جدًا إن نظرت له النظرة الصحيحة المقصودة منه ومن مخرجه. وأنا متأكد أن قليلون فقط هم من سيتجرّأون ويذهبون لمُشاهدة الفيلم في دار العرض أو على الإنترنت لأن بالتأكيد، المواقع الأجنبيّة لا تكذب!
لذا، ففي كلماتي القليلة المُتبقيّة سأحاول قدر استطاعتي الإجابة على السؤال الذي على الأرجح الجميع يسألونني إياه الآن: كيف أحببتُ الفيلم بحق الجحيم؟
قصة الفيلم تدور حول الحياة الحقيقية لرجل العصابات الشهير الذي يُصنَّف كواحدٌ من أخطر رجال المافيا بأمريكا، "چون جوتي". وتُسرَد حكاية الرجل في علاقته بابنه الشاب الذي يريد أن يتبع مسيرة أباه، كاشفةً بذلك عن الكثير من تفاصيل الحياة الليليّة لشوارع نيويورك في السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي، حيثُ عصابات الشوارع هم من كان لهم الكلمة العُليا فيما يتعلّق بالعنف أو حتى تطبيق العدالة.
على عكس ما يقوله الجميع، الفيلم في الواقع جيد إخراجيًا. شخصيًا، قصصٌ من هذا النوع لا تستهويني وحدها، بل يجبُ أن تغُلب على قصصها طريقةٍ جذابة لعرضها. والطريقة التي اتبعها "كيفين كونللي" كانت أكثر من مُناسبة؛ حيث الأجواء القاتمة التي خلقها في مُحيط الشخصيات، الاتزان الانفعالي الواضح على معظم الممثلين (كموود عام تجري فيه الأحداث). من الواضح أن هناك مجهودًا حقيقيًا بُذِلَ، وأنا لا أعني مجهودًا بحد ذاته يستحق الثناء، بل مجهودًا تم توظيفه بالشكل اللائق الخادم للقصة وأجوائها.
..أردتُ أن أذكرها كأوّل الأسباب، لكن الفضل يعود أولًا لبراعة المخرج وقدرته على إدارة چون.
تراڤولتا قدّم أداءً ممتازًا ورائعًا للغاية استطاع به تقمُّص شخصية جوتي بكل تفاصيلها. الرجل هُنا يبدو كمُتقمّص حقيقي للشخصية لا مجرد ممثل كحال ما حدث بمعظم أعماله الأخيرة. تراڤولتا له حضورٌ طاغٍ، وأداءٌ قويّ، ويبدو أن الشخصية فُصِّلت عليه واستطاع هذه المرّة تجنُّب المشاكل التي دائمًا ما لحقت به فيلمًا تلو الآخر.. كان فقد ينقصُه -بجانب حضوره- مزيدًا من المجهود ليُبيّن الرعب والكاريزما الواقعة داخل هذه الشخصية.
تفاصيلٌ كثيرة أعجبتني تستحق الإشادة، بدءًا بأن طبيعة شخصية "جوتي" المختلفة عن أيُّ رجل عصاباتٍ آخر (متى حدث وشاهدت احتجاجات شعبية تحصُل عندما يُسجَن قائد عصابة؟!)، أو أن التنقُّلات السردية ما بين حاضر جوتي مع ابنه بالسجن، إلى ماضيه قد جاء موفقًا ودافعًا بالسرد، مرورًا بأن خط القصة المتمثل في علاقة الشاب بأباهُ -الذي ضحى بكل شيءٍ من أجله- جاء جذابًا ومُشوّقًا، وأن استخدام المشاهد التوثيقيّة كان خادمٌ جدًا القصة وتتابُعاتها، ووصولًا لنتيجة أن صناعة هذا الفيلم، كان حقًا حَدَثًا هامًا؛ حيث أن قصة جوتي كانت من المهم أن تُعرَف للناس لأنها محفزة ومُلهِمة.. هذا الرجل الذي وبعد إمضاءه في السجن قُرابة العشر سنوات في حالة أقرب بأن وصل للشيخوخة فيها، يُصرّ على قول: "جسدي يخونني بسبب هذه التعذيبات التي ألقاها يوميًا هُنا، لكن ليس عقلي، وليس قلبي، هذا لن يحدث أبدًا".
صحيحٌ أن هُناك تواضع في المستوى الفني للفيلم (تحديدًا في الموسيقى التصويرية)، لكن هذا لا ينفي بتاتًا أنه فيلم جيد ويستحق المُشاهدة. وهذا، أيضًا، لا يعني أنّه كان مُلزمًا بأن يكون مبهرًا في كافة جوانبه الفنيّة.
نعم، بالتأكيد أملك نقاطي السلبية مع هذا الفيلم، لكنها مُقارنةً بالمراجعات التي عصفت به تلك، هي لا تُساوي شيء.
في النهاية أود فقط القول أنني شيئًا فشيئًا أدركت مدى غباء وحُمق هذا الشخص الذي يُعطي لتقييمات هذه المواقع أية اهتمام، وخاصةً على المراهقين الذين يختارون مُشاهدة الأفلام بناءً على هذه التقييمات السخيفة. صناعة السينما والأفلام، قد وصلت لمرحلة مُرعبة من تاريخها، هذا أمرٌ لا يختلف عليه اثنان الآن.