عام 1952 وقف المُلحن الأمريكي جون كيج أمام حشد من الجمهور ليقدم مقطوعته الشهيرة 4:33، والتى لا تتضمن سوي 4 دقائق و33 ثانية من الصمت!
الصمت في حد ذاته لغة حيَّة للتواصل، فهو إنصات وإلقاء في نفس الوقت، بيد أنه أكثر شمولية من اللغة الكلامية بكونه لغة عالمية يتفاعل معها الجميع بمختلف الأمصار والثقافات، كما أنه يُطلق الجسد في حرية تعبيرية سامية قد لا يرقى إليها الحوار أحيانًا، ثم أن فصاحة الحوار تكمن في بلاغته اللُغوية، أما الصمت ففصاحته تنساق من أوتار المشاعر وحدها - بهدوئها أو هياجها - فهو في حد ذاته حالة موسيقية غنية، أو دَفقة كلامية مشحونة بالتعابير والمعاني... "الكلام هو أحد أجنحة الصمت" هكذا كان تعبير الشاعر التشيلي بابلو نيرودا.
الصمت هو الملاذ الذي تنجرف إليه أسرة "أبوت" في حياتهم داخل المنزل البسيط والمزرعة الهادئة، حيث تحيط بهم كائنات عمياء تتحرك حول حياتهم بآذانها، وتلتهم كل من يُصدر صوتًا في جزء من الثانية. طيفًا قاسيًا من أطياف الحياة تُجبرهم طبيعتها على نوع جديد من آليات التواصل، باللغة الصامتة يصيغون الحُب والعناد والضجر وغيرهم، مشاعر طبيعية يختبرها المرء يومًا بيوم، ولكن عليه - في هذه الحالة - أن يغلفها بالسكون، وهذا لا يعني أن يدفنها، ولكنه يعني أن يصيغها باللغة الوحيدة التي لا تسمعها الوحوش، فيحول الضحكة إلى بسمة والصراخ إلى دموع ساكنة، والتشاجر الحواري الصاخب إلى إشارات يدوية تضرب الهواء، والكلام الحُلو إلي نظرة أو أغنية رومانسية تتراقص-داخل سماعات الاَُذن طبعا- بأذن الزوجين وهما في طور راقص وحالم.
بريان وودز وسكوت بك يبتعدان بقدر الأمكان عن الحكايات المستهلكة في تقرير فكرتهما، ربما هذا أيضًا ماتفهمه كُتاب السيناريو وهم منكبين على صياغة الفكرة، ليأتي التنفيذ البصري على يد المخرج جون كراسينسكي ليكن خير معين لهم على الرغبة المُلحة التي اعترتهم حيال الابتعاد عن أسوار عوالم الرعب الفيلمية التقليدية، والتي كان يرتكز معظمها على (التخويف اللحظي) أو (الفزع المبني على ظهور وحش أو كائن ذو شكل مرعب وسط الظلام فجأة!)، فالفيلم وإن كان متمسكًا ببعض التشكيلات الثابتة والكلاشيهية في هذا الصنف من الأعمال السينمائية، إلا أنه اجتهد في تخطي تلك النقاط والتعامل في أبعاد أوسع وأعمق بقدر الإمكان.
يختار كراسينسكي مدخلًا دراميًا تقليديًا لفيلمه، ذهاب الأسرة لتتبضع بينما يُمسك أصغر أفرادها لُعبة راقت له ويقرر الاحتفاظ بها، ولسذاجته يأخذ معها البطارية ويستخدمها في إعمال اللُعبة، لينتهي التسلسل بموته من قبل أحد الوحوش التي سمعت صوت اللُعبة بعد عدة ثواني من إعمالها.
كراسينسكي - إلي جانب أدائه الجيد في الفيلم - فسلوكه في شحن لحظات التوتر مثير للاهتمام، تكمُن فيه سمات التميز لو تحدثنا عن تطويعه للزمن من أجل خدمة الدراما أو شحذ الاهتمام، صحيح أن زمن ليس ثقيل، ولا يجتذب التوتر إلى الذروة، إلا أنه من أهم الأدوات التي أثارت أجواء الفيلم. كذلك شريط الصوت (أو بتعبير أدق الموسيقي التي كانت تتموج بإستحياء وخمود على ضفاف شريط الفيلم) في محاولة للتواصل مع السكون، وكذلك حيائها في التسلل إلى نوافذ الفيلم ساعدنا كمشاهدين على تفهم المأساة التي قد تنمو إذا ما دوىَّ صوت صاخب في لُب الأحداث.
ربما وصف "ناضج" أنسب من "جيد" إذا ما تحدثنا عن أداء إيميلي بلانت، انفعالات مدرجة برزانة، واضطرابات واقعية نائية عن التمادي والمبالغة. هذا ما قد يلفت نظرنا إلى أن تثبيط الحَراك الدرامي للشخصيات سببه الأساسي هو ضعف النص في إثارة التحولات (أو صياغتها بشكل أهم) وليس للممثلين ذنبًا فى ذلك. علاوة على ذلك - ومع كامل الاعتراف بجودة أجواء التوتر - تُوجد بعض الثغرات في (مولدات أو مسببات التوتر)، فسيناريو الفيلم لجأ إلى أنواع ليست بكثيرة في خلق أجواء التوتر، منها مثلًا تلك اللكنة "الهتشكوكية" (أن يعلم المشاهد أكثر من شخصيات العمل أو أن يعلم المشاهد بأمر لا تعرفه الشخصية مثل أن نرى كمشاهدين وحش يتسلل إلى الشخصية والشخصية نفسها لا تراه). وهذا الاستعمال على أنه مستهلك، إلا أن توظيفه كان على درجة جيدة من التوفيق والعملية، خصوصًا أن الفيلم لم يُسرف فى إستعماله، لكن الفيلم أسرف في استخدام آلية أخرى (لم تكن موفقة أبدًا) ألا وهى تفريق الشخصيات عن بعضها بدون داعي أو إرسال خطر لكل منه على حدة، والمشكلة لا تتوقف على كون - هذه الآلية - مُحرك أحداث مفتعل فحسب، بل تمتد أيضًا إلى أن المونتاج لم يكن ناجحًا في تبادل اللحظات المتوترة من مكان إلى مكان.
ما دون ذلك، فالفيلم نجح في تأصيل فكرته بقدر الإمكان وتنفيذها بصورة على الأقل تليق بها.