(عندما تصبح فنانًا، لا تعود إنسانًا عاديًا، بل تصل إلى موقف إنساني وابداعي تتلقى على أثره الأحلام. يحدث هذا مع سطوة العقل الباطني عليك. لا تخطط لتنفيذ أي شيء ولا تعلن عن أي شيء. لن تقول "سأفعل هذا وسأفعل ذاك"! الأشياء تأتيك من تلقاء نفسها. لم أرَ والدي عندما توفى. مات وحيدًا. لم أغفر له إلا عندما رأيته مجسَّدًا على الشاشة. كلما شاهدت هذا المشهد في الفيلم، بكيت، لأنه إحدى حقائق حياتي.)
هذا ما صرًَح به المخرج التشيلي ألخاندرو خودورفسكي في حواره مع جريدة الأهرام عند الحديث عن فيلميه " رقصة الحقيقة " و"شعر بلا نهاية" والذين جسَّد فيهما فصولًا من حياته.
دائما ما أجد رابطًا وثيقًا بين رباعية شاهين الذاتية وبين فيلمي خودورفسكي، فكلًا من خودورفسكي وشاهين يحمل روحًا مجنونة ومهوسة بالفن والجمال، كلًا منهما جرًّب شتى ألوان الفنون وبرع في التمثيل، كلًا منهما لامسته عذوبة الشعر ونادته أضواء المسرح، وأخيرًا كلًا منهما استخدم السيريالية في تصوير رحلته الذاتية وتجسيد قصة حياته، واضعًا شخوصه في مسرح صاخب بالأحداث والحوارات ذو ديكور سياسي فج يقبع فى الخلفية.
رحلتهما كانت تفتيش مُرهق في الذكريات، لكنه محتفظ بلذته، روح شاردة يقودها الجنون إلى الجمال. خودورفسكي كان يبحث عن الجمال في الإنسان، وفيما يحيط بالإنسان، موضحًا أننا من نخلق القبح ومن نسكب السوداوية على سماء الكون، أما شاهين فكان يراهن علي الإنسان في أي عهد وأى مكان، يراهن على الشحنة الإنسانية المتراكمة بداخله، حتى أن جولاته الذاتية كانت تنتهي بتصالحه مع ذاته، ومع كل من لامس حياته، تنتهى بأن يغفر للجميع كما خاض خودورفسكى رحلته ليغفر لأبيه!
الرجل الذي صرخ من أجل الإنسان، الرجل الذي رسم بعدسته أفكاره وخواطره وهواجسه حتى شاع بين الناس أن أحدًا لم يفهمه؛ وكيف لا وهو نفسه كان يحاول أن يفهم نفسه. يفتش في فنه عن خبايا الذات في قصص النيل.. والأرض.. والجلباب.. والفساتين. قصص مصرية لا تلبث إلا وأن تتوغل في ذات الإنسان ككل دون أن تغرق في محليتها..
الرجل الذي راح يبحث في فنه وسط أنقاض الحروب على الورود. يعزف الموسيقى وسط دقات طبول الحرب. يقابل سيوف المتطرفين بالرقصات، وبنادق المعتدين بالتقبيل. ساعيًا إلى جنة أرضية أخرى غير التي دُفنت في الأحلام التي تبيعها السينما الأمريكية!
ساعيًا إلى السلام، إلى جنة مطلقة، جنة قبل التي في السماء. فهو بأناشيده يدَّعي أن الجميع يستحق الجنة، يدَّعي أن كل إنسان تم رفعه على الصليب كما حدث مع يسوع، وليس يسوع فقط من صُلب. أولم يضع مُعلِم الكنيسة الطفل "يحيى" على هذا الصليب حينما ارتفع صوته بالصلاة كما شاهدنا في "حدوتة مصرية"؟!
حينما وضع شاهين الذات البشرية في محكمة مهيبة أثناء إجراء عملية جراحية له في القلب!! ليكن هو نفسه المجني عليه والمحامي.. والمتهم! يندد بنزاهته، ويُمَّسخ ويزيف الشحم الذي وضعه علي جبينه حينما كان يلعب دور قناوي في "باب الحديد"!!
ولكنه لا يحاكم نفسه فقط، ولا يجني عليها فقط، بل يحاكم كل من لامس حياته من قريب أو بعيد، ثم البشر أجمعين، وفي النهاية يدافع عن الجميع!! يتصالح مع الطفل الصغير الذي يمثل ماضيه... هكذا حقق شاهين جنته لحظيًا، أو بالأحرى هكذا إدعَّى إنها ستتحقق، عندما يتصالح الإنسان مع ماضيه، ومع ماضى البشر، لتكن بداية حدوتته المصرية وليس نهايتها!! لتكن رسالة الغفران كما يجب أن تكون!
بدأ كل شيء مع كواليس فيلم العصفور، عندما تعرض شاهين لوعكة صحية بسبب جسده المنكب على التدخين، فيتجه إلى لندن لإجراء عملية جراحية على يد مجدي يعقوب، هنا يتلقى الفنان صدمته الحقيقية، شاهين الذي عرَّى الإنسان أمام نفسه - ممثلًا كل الطوائف المجتمعية في حواديته - لم يسبق وأن عرَّى نفسه كما فعل مع الجميع، لم يضع عدسته داخل نفسه كما وضعها في جوف الجميع (على حد تعبير محمود عبدالشكور). كان شاهين يُدرك أن السينما هى وسيلته لإشباع شهواته الفنية المتعددة، كرغباته في تجسيد شخصية هاملت مثلًا، فمثله مثل أي فنان حقيقي كانت الخواطر تزحف إلى وجدانه بنهم، وها هى رغبة ملحة تطارده ليصنع فيلمًا يبحث فيه عن نفسه، ويواجه ماضيه ويتعرف على ماضي من حوله، فكانت الرباعية الذاتية، ثرثارة مثله، جوالة الأفكار الصاخبة كالخواطر التي تعتريه، تسكب التاريخ وتحل عقد الماضي، تهتف فى أُذن الحاضر بشكل مدوي ممثلة الذكريات التي تطارد النفس المنكسرة. رباعية شجاعة لم تخلو جسارتها من بعض الجبُن، أو بشكل أدق من بعض الخوف، فها هو يُسمي نفسه "يحيى شكرى مراد"، يوهم نفسه أنه يتحدث عن حياة أخرى غير التي عاشها، يشجِّع نفسه على السرد الجريء لحكايته بأن يهرب منها، يتعامل مع أقصوصته على أنها سيناريو فيلم جديد لا يمثله في شيء!يبدأ مع البداية، مع إسكندريته، مع البحر الذى يداعب استهلاليات أحلامه وخواتيمها، فتجتذبه شواطئه. في حِضن هذا الموج كان يروِّض أفكاره، فنَمَى بداخله ممثل صغير، وراقص استعراضي مثير للإهتمام، تتراقص روحه بين شموس هذا البحر أو تذوب في ضوء آلة السينما كلما كرَّر دخول فيلم معين دون أصدقائه.
كانت إسكندرية هى منبع التساؤلات التي طرحها في داخله مع خطوات الفكر الأولى، واجدًا فيها أعجوبة لا مثيل لها، ندَّاهة تجتذب الأحباب والأعداء، منبع الفن الذي مر بين الحرب والسلم، وملتقى مطامع الأعداء كما هى ملتقى طموحات الأهل وشغف الأبناء وأحلام الصغير "يحيى"، هى مسرح الملاحم النفسية والمادية، وسماء الحب المرغوب والمرفوض، الحب الذي يسمو إلى السلام - الأفلاطوني الخيالي - بأريحية تقبل الآخر، يوتوبيا كانت تتلصص على جسور الأحلام التي كان يبنيها شاهين في هواء الإسكندرية، وطنه الذي أراد ابتلاع الجميع، مسلمين ومسيحيين ويهود، مصريين وإنجليز وألمان، فبين المدافع كانت الورود، وبين الصخب كان الغناء، فرصة حالمة بأن يحظى الجميع بالحب الذي زعم البعض أنه مرفوض.
بين كل ذلك كان التساؤل الأعظم، التساؤل الذي إحتل اسم الفيلم نفسه! لماذا الإسكندرية؟ كان يقف أمام هذا البحر يحلم بعبوره، بالسفر إلى أمريكا لتحقيق طموحاته الفنية، ينتهى الأمر به صغيرًا على مركب كبير متجهًا إلى حُلمِه، ولكننا نرى في لقطة النهاية امرأة (تمثال الحرية) تضحك كعاهرة، لماذا يسخِّف شاهين من أرض ما وراء البحار التي كان يبني من أجلها الأحلام في خيال الصغير "يحيى"؟ أيلوم نفسه لأنه إنطلق وراء الحلم تاركًا أرض الأحلام نفسها؟! إذا كانت هذه محاولة لجلد الذات، فيسعنا القول بأنها مجرد تمهيد بسيط للسوط الحقيقي الذي سيهوى به على نفسه، وعلى الجميع قبل أن تبدأ رسالة الغفران...
- أنا بقول فيه توازن لازم نعمله..أنت قلت كلمة مهمة فى بداية كلامك "أنا عايز أصحى المتفرج"...تخيل إنك بتعمل سيمفونية... زي سيمفونية بيتهوفن الخامسة مثلًا، لابد يبقى فيه نغمة نبتدي بيها، وإحنا بنتكلم قلنا أن الراجل ده عالم عظيم ..فيعني مثلا نخلََّيه يأخد جايزة نوبل، ولحظة ما يستلم الجايزة ينقلوه المستتشفى، المتفرج هيحس أن ده مهم، هدفي من ده الإحساس... ده يكون مشهد البداية، ويكون تأكيد على أهمية العيان ده، لأننى هعيش معاه ساعتين يعني، فهل ابتدي بالسيمفونية الخامسة ولا التانية؟
= أنا بقول التانية..حتى التانية مصرية زيادة.
- أنا بقول إن إحنا بنتناقش.
= دي آراء...وده اختياري.. وحاسس بيه وأنا بكلمك.
قمم جبلية يكسوها بياض الثلج حيث يجلس مريض بأزمة قلبية (ذو شخصية مهمة) في نقرة تتوسط هذه القمم، بعدما وجد نفسه فجأة هنا حينما كان ينطق اسمه الثلاثي أمام طبيبه في إحدى مستشفيات لندن. هكذا كانت الإفتتاحية المقررة -في رؤية الأديب يوسف إدريس - لفيلم "حدوتة مصرية"، أما الشخصية التي كان العمل سيتناولها في البداية، فهى شخصية عالم مرموق، أو حتى أى شخصية مهمة كما خطر على بال يوسف إدريس، أما الحوار أعلاه فكان جزء من الحوار الذي دار بين يوسف إدريس وشاهين على طاولة سيناريو الفيلم (الحوار مُسجَّل وتُوجد نسخة كتابية منه فى العدد الخامس عشر من مجلة الفيلم)...
إقتبسيوسف إدريس حبكته من أزمة قلبية واجهته كالتى واجهها شاهين، ليتلقى الأخير من حكايته تلك النقطة فقط، فينفذ منها إلى حكاية أخرى أراد أن يرويها، ملقيًا بباقي حبكة يوسف إدريس عرض الحائط. كان شاهين قد أدرك أن الأجواء التي نصبها إدريس تصلح لشحنة المعاني المتدفقة في وجدانه، تصلح لأن تكون مسرحًا لبعض فصول قصته الطويلة، فرصة جديدة لأن يتوغل في ذاته أكثر، لتكن الرحلة الشاقة التي سيخوضها في اكتشاف ماضيه وتأمل حاضره هى قربان الغفران الذي سيسامح به نفسه، وسيتصالح به مع الجميع. ففى الأفلام - كما قيل من قبل - "الحياة هى الهدف، والحياة هى الثمن".
كان الطفل الصغير -الذى يُمثل "يحيى" فى ماضيه- يرغب في قتله، متحججَّا بأن "يحيى" الكبير سعى إلى قتله، وأراد دفن ماضيه، وأحيانَّا يعتمد على مبرر أضعف : وهو أنه ليس الوحيد الذي حاول قتله، فقد شاركه بعض من الأهل والمعارف. العظيم أن موقف الجميع قوي فى موضع الإتهام وفي موضع البراءة، جميعهم ظَلَموا وظُلِموا، جميعهم فقدوا الحب، وجميعهم بحثوا عنه في حين أنهم سببًا فى ضياعه، وأخيرًا يتفهم "يحيى" أننا جميعا سواء، جميعًا ظالمين ومظلومين، وأخيرا يقدم قربان الغفران، من أجل الجميع، ومن أجل نفسه قبل الجميع.