"Elephant": أصالة وتميُّز الفِكرة هي كل شيء..

  • نقد
  • 10:31 صباحًا - 18 اغسطس 2018
  • 2 صورتين



هناك أفلام مُعيّنة تتميز باﻷفكار أو اﻷساليب المختلفة غير التقليدية، تجعل المُشاهد إما أن يقبَلَها ويحترم وجهة نظرها، وإما أن يلفُظها ولا يود مُشاهدتِها مجددًا. هي لا تعدِل للوَسط، ويتجسد بها جزءٌ من الفلسفة والرؤية الشخصية التحرُّريّة لصانِعها. المقولة الشهيرة التي تصف تلك اﻷفلام هي "إما أن تُحبّها وإما أن تكرهها".. اﻷمر هُنا لا يتعلق بمدى جودة أو قوّة هذه اﻷعمال الفنيّة، بل بمدى فِهم وتقبُّل واستساغة المُشاهِد لها (أو انفتاحهُ على المفهوم الفضفاض للسينما بوجه عام). وهُناك مخرجين تتميز معظم -إن لم يكن كلّ- أفلامهم بهذه الخاصية. أذكر منهم أشخاص مِثل الدنماركي "لارس ڤون ترير"، أو اﻷلماني "مايكل هانكِه"، أو اﻷمريكيان "ديڤيد لينش"و "تيرانس ماليك"، أو حتى البريطاني "چوناثان جلازر".. وفيلمُنا هذا، ليس ببعيد على هذا الوصف.

فيلم المخرج "جاس ڤان سانت" الصادر عام ۲۰۰۳، والحاصد لسعفة "كان" الذهبية، ومعها جائزة اﻹخراج، يحكي عن الحياة الروتينية لمجموعة من طلاب المدرسة الثانوية، نُشاهد فيها بعضًا مِن تفاصيل يومهم الدراسي؛ كيف يقضونه، عن ماذا يتحدثون، ماذا يُفكّرون، كيف يتواصلون مع مُحيطهم.. الكثير من وقت يومهم/حياتِهم العادية -التي لا يحصل فيها أي شيء هام بالنسبة لهم- نراها على الشاشة. وتستمر الوتيرة على هذا المِنوال إلى أن تنقلب اﻷمور بالنصف ساعة اﻷخيرة ﻷسبابٍ لا أرغب بحرقِها.. السؤال هُنا ليس: ما هو هذا الحدث؟، لكنه على اﻷرجح: كيف سيأتي كخِتام فيلمٌ متفرِّد الأسلوب والأفكار كهذا؟ (أو، كختام قصةً اختارت أن تميل ناحية طريقة العرض بدلًا من توثيق اﻷحداث الحقيقية المُستلهَمَة مِنها؟). اﻷمور هُنا لا تتفجّر بالمعنى الحرفي للكلمة، ﻷن اﻷحداث أصلًا لا تسير وفق بنية درامية متصاعدة، بل إن السرد مُبعثر اﻷوراق وغير خطي.

هذا فيلمًا مختلفًا، "مختلف" كلمة مُناسبة تمامًا له، فهو في كل شيء مختلف؛ بدايةً من معالجة القصة على طريقة النقاط المُتباعِدة والاختزال العبقري لعامِل الوقت، مرورًا باستخدام الكثير من اللقطات الحيّة في نسج معالَم هذه المدرسة التي ظهرت في بِضع اللقطات أقرب بأن تكون مُصوَّرة كأحد البرامج التسجيلية من شدّة بُعدَ شخصياتِها عن التمثيل والتصنُّع، وباشتراك ممثلين غير مُحترفين (العديد منهم لم يُشارك في أيّة أعمال أخرى بعدَها)، وصولًا باﻷسلوب التصويري الرائع للغاية مِن "هاريس سافاديس"، والمُستغِل لمكان الحدث بشكل ممتاز، حيث المكان هُنا هو الشخصية الرئيسية في العَمَل. أنتَ لا تُشاهد الفيلم كي تعلم جُنبات القصة أو بلورة اﻷحداث بالنصف ساعة اﻷخيرة (القوية للغاية)، أو التمثيل، أو حتى حياة هذه الشخصيات على حِدة. في الواقِع ما جذبني للفيلم ليس كل هذا بل تنوّعات هذه الشخصيات عندما توضَع بجانب بعضها البعض؛ عندما نرى مشهد الفتى "إيلياس" الذي يُحمضّ الصور التي التقَطَها، ثم ندلُف لحياة "ميشيل" الفتاة المنطوية التي لا ترغب بارتداء سراويل رياضية، بعدُها نُشاهد الأفعال التي ستغدو هامة فيما بعد بالنسبة لشخصية "آليكس"، ثم نُقابل الفتيات الثلاث اللاتي لا يتوقفن عن الثرثرة، كما نلاحِظ وجود "چـون" الذي افتتحنا به القصة، في كلًا من مشاهد زملائه السابقة. التبايُنات هُنا هو الشيء الذي "يُصبِّر" المُشاهِد على انتظار ما الذي سيحدث، والفيلم مصنوع بحرفية شديدة التعقيد كي يُهيئُكَ لحدثٌ ما آتٍ. ولعل المُخرج كان مُدركًا جيدًا لهذه النقطة حيث لم يُرد على فيلمه أن يزيد عن الـ ۸۱ دقيقة، والتي أعتقد أنه كان ليكون ممل حقًا إذا زاد عنها، رغم عدم خلوّ بضع المشاهد من البُطْء والطول بالمُنتصف، لكن لا بأس، فالفيلم فاهمٌ جيدًا لطبيعته، والتمهُّل اﻷسلوبي هذا إن جاء -ومعه اللقطات التصويرية المُتتبِّعة والطويلة- فقد جاء لسببٌ ما..

معالجة الفكرة

دعوني أوضح أولًا ما هي هذه الفِكرة التي لا أنفكّ بالحديث عنها؛ الفكرة هي سرد القصة في خطوط تقاطعيّة، بشكل التناوب في الحدث، حيث إذا كنا سنُشاهِد (حدثٌ معيّن)، سنراه أكثر من مرّة؛ فاللَقطة التي تأتي بنهاية هذا المشهد، هي ذاتُها نقطة بداية مشهد آخر سيأتي لاحقًا. المشهدان يحصُلان من تلميذ/تلاميذ عدة، والفكرة هُنا ليس في تعدد مناظير "الحدث الواحد" كي نرى وجهات نظر مختلفة، ولا في كيفيّة تضافر الخطوط القصصية المتباعِدة على غرار فيلم كـ(Babel) أو كـ(Magnolia) مثلًا. بل هذه النقطة لا تُضيف أصلًا شيئًا على الحبكة التي ستظهر، بقدر ما، هي ذاتِها، ما تخلق هذه الحبكة!. أن تتلاقى خطوطٌ قصصية سيعني وجود خلفيات وراء شخصياتِها وهذا ليس هدف الفيلم، إنما هو يريد مجرد تماس هذه الشخصيات ببعضٍ، وشبكُها تحت سقف واحد هو سقف مدرستهُم، وهُم بالفِعل مترابطين -أو مُنتمين- بما أنهم زملاء مدرسة واحدة.. وكون أحداث الفيلم بأكملها تدور في يومٌ دراسيٌ واحد كان ملائم مع روتينية الحياة بالمدرسة.

معالجة القصة..

ورغم أنّ الـ(فِكرة) هي قوام وعِماد الفيلم في وجهة نظري، إلا أنه لا يعتمد كليًا عليها؛ فالقصة مستلهَمَة -لا مُقتبَسة- من حادثة تعرف بـ Columbine High School Massacre (يُفضّل القراءة عنها بعد لا قبل المُشاهدة) حدثت قبل أربع سنوات من إنتاج الفيلم، أي أنّ الفيلم بالفِعل يريد أن يحكي قصةً ما، لكن ورغم هذا، هو لا يجنح لحال معظم اﻷفلام توثيقيّة الطابِع، بل أن ڤان سانت قد اختار معالجة القصة بشكل يغلبُه التجريب واﻷصالة، وهو حقًا عبقري في هذه النقطة. مثلًا، أعجبني جدًا عدم تفسير أو مُباشرة الأفكار التي يطرحها وترك مساحةً للمُشاهد أن يُكوّن هو رأيه الخاص.

القصة هُنا لا تُظهر معالِمها الحقيقية (وأعني بذلك ظهور الحبكة، أو خط سير القصة) إلا بالدقيقة الخمسون من الفيلم، ما قبل ذلك هو استعراض حيوات عدد من التلاميذ فقط (قُرابة العشرة تلاميذ؛ منهم ثُنائيّان، وثلاثي)، وهذا هو نوع الفيلم الذي يختاره "ڤان سانت"؛ هاديء اﻷسلوب، متمهل الإيقاع، تطفُّلي الكاميرا، وتقاطُعي السرد.

معالجة الموسيقى

هُناك بضع المشاهد الموسيقية المذهلة في هذا الفيلم. استخُدِمت مقطوعات كلاسيكيّة في إعادة معالجة لثيماتِها كي تُلائم عصريّة الأحداث. فمثلًا، الإعلان الدعائي للفيلم يُعدّ مِن أفضل ما رأيتُ؛ يُحضّرُكَ ويُعلِمُكَ أن (شيءٌ ما آتٍ) بين طيّات هذا اليوم المدرسي، بدون الكثير من الحوارات. استخدام المقطوعة الموسيقية (Für Elise) لبيتهوڤِن كان جميلٌ ومؤثرٌ، ورائع.

تصويرٌ أوسكاري

هذه هي ركيزة الفيلم الأساسية، فاذا كان اختيار "ڤان سانت" هو اللغة السينمائية التي سيُكوّن بها شخصية فيلمه، فالتصوير هو أول ما خَطُرَ على بالِه. المدرسة هُنا ليس مجرد المكان الذي تحصُل فيه الأحداث، بل هو محور الأحداث ذاتها، القصة تتحدث عن المدرسة ككيان أو كمؤسسة أيدلوجيّة، لا عن طلابِها.

الـ Tracking أو الـ Following Shots المُصوَّرة عن طريق الكاميرا المحمولة (Steadicam) والمُستَخدَمَة لتنفيذ المشاهد الطولية أو ما يعرف بالـ(One Shots) كانت اختيار عبقري من ڤان سانت ليكوّن بها كلًا من الأسلوب السردي والأسلوب السينمائي، حيث التجانُس بينهُما كبير. بعض هذه المشاهد استمرّ لأكثر من خمسُ دقائق كاملة.

ڤان سانت يُثبِت أن هذا الفيلم -الذي كَتَب قصته- كان ليريد حِنكة وتحكُّم إخراجي بالأصل قبل أي عنصر آخر. عَمَله على صعيد الميزانسين رائع، إدارته للمجاميع داخل كادرهُ مذهل، تحكُّمه باللقطات الطولية رغم صعوبتها الشديدة ممتاز، في عملٌ غير مُقدَّر من مدير التصوير "هاريس سافاديس" الذي عَمِلَ بعدها في أفلامٌ كـ"Zodiac" و"American Gangster". حتى أن الفيلم بصريًا يختار أن يكون ذو أبعادٌ مُربعيّة وهو -دون عِلمُك المُسبَق بلقطاته الطولية- يعطيك انطباعًا عن تميُّزه على مستوى الصورة.

لا بوستر الفيلم، ولا عنوانهُ يمتّان الصلة بأي شيء!

هناك أكثر مِن تفسير قيل عن رمزية الفيل المستخدم كعنوان للفيلم؛ منها تفسير صانع العمل الشخصية الذي أحال رمزيته للعنف المولود لا الموجود. لكني عندي رؤية مختلفة للأمور: فقد رأيتُ أن استخدام رمز الفيل كان بدافع اعتباطي تمامًا بأن هذا الفيلم شكله عكس مضمونه، أو قصته ليست هي الشيء التي من المفترض أن يجذبك للمُشاهدة، فلا داعي هُنا لوضع عنوان يدل على القصة. أي شيء سيفي بالغرض سواءً أكان قردًا أم أُخطبوطًا أم فيلًا. هذا التأويل كان مُقنِعًا لي أكثر بسبب الملصق الدعائي الذي جذب اهتمامي كثيرًا وكان من أسباب إرادتي لمُشاهدة الفيلم دون الحاجة لمُشاهدة إعلانه. البوستر غريب قليلًا لأن صورة القُبلة اللطيفة عليه تُشعرك أنّ الفيلم يتحدث عن علاقة رومانسية بين الشاب والفتاة، بينما هذا المشهد في الحقيقة لا يتعدى مجرد مشهد عابر كأي مشهد آخر بالفيلم. اختيار ڤان سانت لهذا المشهد -كما الحال في عنوان الفيلم، وكما الحال في اللون البرتقالي أيضًا!- كان بدافع نبذ فكرة أن الفيلم بالداخل كما بالخارج (سمة أخرى من سمات اختلافُه)، وهذا بالنسبة لي أمرٌ يُزيد لا يُقلل من اهتمامي بالعمل، وهو ليس ببعيد أيضًا عن الثيم الغامِض/التساؤلي داخلهُ.

«الفيلم ليس فيلمًا عظيمًا أو استثنائيًا، لكنه بالتأكيد واحدٌ من تلك اﻷفلام المتفرّدة من حيث صنعتِها وأسلوبها. فكرته ربما تكون اﻷول من نوعها التي تنفذ بهذه الطريقة، رغم أنه من المؤكد أنها نفذت بأشكالٍ مختلفة فيما قبل. وسبب كونه ليس مِن السهل أن يتقبّله الجميع هو إفراطه في اللقطات الطولية (في ظّل عدم وجود حبكة مُبكّرة) التي قد يتعبرها البعض نقطةً سلبية به، في حين أنّ البعض الآخر سيعتبرها مكمن تميُّزه»


وصلات



تعليقات