معظم الإنتاجات المصرية في الأونة الأخيرة تائهة بين قوالب مكررة، صراعات ساذجة، أو كوميديا هشة، تطويع ساذج لأفكار غير أصلية. لكن في وسط الأعمال الجيدة والسيئة، كان هناك طيفًا سينمائيًا مختلفًا -شعبيًا قبل كل شيء- يقتحم صالات العرض، ويعطي مفهومًا جديدا للنكهة المكررة في القوالب الدرامية -الكوميدية - ليكن ركنًا خالصا في صفوف الهزلية البحتة. وأكرر هنا كلمة "بحتة"، فكونها بحتة أمر حتمي لتحقيق الهزلية بكل إخلاص لأبعادها الدرامية، وهذا ما أريد الولوج إليه، الفارق الواسع بين "الفيلم الكوميدي" و"الفيلم الهزلي".
الكوميديا موزعة -بتفاوت- على كثير من الأعمال، كانت سوداء أو كانت غير ذلك، ولكنها حاضرة في معظم الأحيان، وربما تتواجد في أقسى الأعمال وأكثرها حدة وإثارة للعواطف بعض المواقف الخفيفة التي تسرق بسمة وسط الدموع، وأحيانًا تتسرطن أكثر في بعض الأعمال فيصبح تصنيفها الأساسي -تقريبًا أو من غير تقريبًا- كوميدي دون أن تفقد واقعيتها ومنطقيتها، أما إذا تملكت أكثر من العمل، حتى جن جنونه، وأصبح في منطقة اللامنطقية، وواقع اللاواقعية، فأصبح العمل ساخرًا من كل شيء حوله، للحد الذي يمكن أن يفقد فيه الواقعية، أو يضحي بها على تعبير أدق، في سبيل الغاية المنشودة -والتي غالبًا ما تكون الضحك دون غيره من الغايات- أصبح الفيلم هزليًا، لا مباليًا اللهم إلا بصوت الضحك الصاخب فوق كراسي العرض، أو الابتسامات المنعكسة عن سخرية صاخبة، أو حتى هادئة!
نجد الناظر مثالًا -جليًا- على التصنيف الذي نروِّج لتنصيبه، روحًا ساخرة، عفوية وطيبة في مزاحها، ترجو الضحك من جمهورها ، لا أكثر ولا أقل، ثم يأتينا لا تراجع ولا استسلام -جديدًا- ومناسبًا لمدخل الحديث، خصوصًا أنه قريبًا -في لبنات تشكيل عالمه- من الركائز التي أعتمد عليها الكويسين .. في تشكيل عالمه، حبكة بسيطة، ساذجة ومكررة، تخلو تمامًا من المنطقية، قُدِّمت من قبل في مئات الأعمال، حتى باتت لا تُذكر إلا بلكنات تهكمية فحسب.
الكويسين ..:
يبدأ الفيلم بإرساء حبكته سريعًا، مع شخصياته التي وفرت عليها سذاجتها مجهودًا ووقتًا في التقديم، ثم يبسط الطريق إلى هذه الحبكة بنوعي -الكوميديا- المعروفين، "كوميديا اﻹفيه" و"كوميديا الموقف"، على أنه راهن أكثر على الأخيرة في بلوغ مراده، والحق أن هذا كان خيارًا صائبًا، وربما أكثر الخيارات صوابًا في هذا الفيلم، صحيح أن "كوميديا اﻹفيه" -في حال كونها موفقة- لها حظًا من الخلود، بأن تتحول إلي "تريند فكاهي" أو "قالب لكوميك مرح" على مواقع التواصل اﻹجتماعي، وصحيح أن هناك فيلمًا -لن يتكرر مرة أخرى- اسمه الناظر مبني كليًا على كوميديا اﻹفيه إلا أن "كوميديا الموقف" أكثر نضجًا وحيويةً من نظريتها، أو على الأقل هي الأنسب في الوضع الحالي للسينما المصرية، والذي يعاني -في مداد الأحيان- من جمود فكاهي في جوف اللفظ، فما أغنى الحركة والحدث عن هذه المعضلة اللفظية الفكاهية؟!
يجدر بنا الاعتراف بأن هذا النوع من الكوميديا كان موفقًا في غايته، كما يجدر بنا الاعتراف بأنه كان متخازلًا في وسيلته، ولتبيين ذلك يمكن أن نمثل عيوبه في مشكلتين: الأولى أنه قام بتطويع المواقف لخلق الكوميديا أكثر مما ينبغى داخل السياق، فكان يتمادي في استعراض كل "إسكتشاته" -لو جاز التعبير- من أجل خيلاء فكري باطل، يحثه على التفاخر بخصوبة أفكاره -والتي بعضها غير أصلي من الأساس- الخلاقة للكوميديا، للدرجة التى جعلته يستعرض جميع هذه "الاسكتشات" من جديد في نهاية الفيلم، جامعًا كل الشخوص، مذكرًا بكل الأحداث والمواقف والمفارقات في مشهد واحد، استعراض لاقيمة له، وحلب نكات بلا جدوى، وقتل لقيمة ومفهوم "كوميديا الموقف"، والتي تستمد عنفوانها الفكاهي من السياق الذي صيغت فيه.
وهذا ينقلنا إلى المشكلة الثانية، والتي تتمحور حول فن صياغة المواقف داخل هذا السياق، فالفيلم كثيرًا ماكان يُقحِم مواقفه الفكاهية في قلب حبكته، فيخلق مبررات واهية للانتقال لأماكن، أو لتقديم شخصيات، من أجل الضحك فحسب، ودون عائد مباشر لهذه المواقف على الحبكة.توفيق الفيلم في نكاته لايغفر له -كثيرًا- مبالغته في استعراضها، أو تعثره في التماس الطريق إليها، وبعيدًا عن المشكلتين، هناك نقطة لا يجب أن تمر عابرة، خصوصًا أنها لا تقترن بحالات خاصة، بقدر ما أصبحت ظاهرة عامة في صناعة الكوميديا، وبالخصوص في مصر، وأقصد هنا "كوميديا المسوخ"، أو هكذا يمكن التعبير عنها اصطلاحيًا، وهي الكوميديا التي تستمد طاقتها من تمسيخ الشخصيات، فتاة سمينة نسخر من حجمها، ونلقي نكات على جسدها، أو شخص يتلعثم في الكلام، أو يتحدث بطريقة غريبة، بمخارج تالفة، أو نرى رجل بجسد طفل، وإمرأة صلعاء (كما كان الحال في فيلمنا). والدافع وراء ازرداء هذا اللون من الكوميديا ليس إنساني بقدر ما هو اشمئزازي، علاوة على أنه ليس إلا استسهال رخيص، وكوميديا مصطنعة، نائية عن الحيوية والطبيعية . مابين هذه الايجابيات والسلبيات التي يقفز فيما بينها سيناريو أيمن وتار كان الانجاز الأهم له هو تحقيق الفيلم الهزلي البحت، الذي لا يستكين للجدية في أي لحظات، حتى عندما يكون في أمس الحاجة اليها، وهذا -في نظري- أهم ما يميِّز الفيلم إجمالًا، وليس السيناريو فحسب.
أحمد الجندي مخرج مميز في المضمار الكوميدي، الأجواء خفيفة ومبهجة، والكيمياء بين الممثلين تنم على درايته بتفاصيل العلاقات، وأهميتها، سواء على الصعيد الدرامي (بناء القصة)، أو على الصعيد الكوميدي، أما الممثلين أنفسهم فالأداء بين مقبول وجيد، وجيد جدًا بالحديث عن أسماء أبو اليزيد،، والحق أن الأدوار سهلة، بسيطة وتكاد تكون أحادية الأبعاد، خصوصا أن كل عنصر -كما ذكرنا أنفًا- يتجه نحو غاية الفيلم الوحيدة وهي الكوميديا الخالصة. هكذا كان فيلم الكويسين.."كويس" إلى حد كبير.