فكرة خلق عالم قصصي ممتد بحكاياته وشخوصه لأكثر من فيلم دون التقيد والاحتباس بحدث، أو بشخصية بعينها، هي فكرة غنية إلى أقصى الحدود، فهي تستغل الشخصيات والبيئات المختلفة التي فرضها العالم، وتعطي فرص أكبر للدراما بأن تنسج خيوط الصراعات والمشاعر حول القصص في تطرز بديع، حدث هذا مع هاري بوتر بعد أن تم إنتاج فيلم تدور أحداثه من قبل بداية السلسلة، فاتسعت نظرتنا لعالمه، وامتدت أزمنته، وأماكنه أكثر لتتشعب في خيالاتنا، كما حدث مع عالم "The Lord of the Rings"، حيث قُدمَّت لنا سلسلة The Hobbit وغيرهم.
عالم The Conjuring بدأ يخطو هذه الخطوات، يبني لنفسه عالمًا خاصًا، بمعالمه وعناصره وشخصياته المميزة له، وببعض الممهدات التي تفتح الأبواب لإنتاجات سينمائية جديدة، بيدو أنه بدأ يتعامل مع محرك جديد من محركات الرعب ومثيرات الفزع، ففي الأجزاء الأولى يتلاعب الفيلم بمشاعر الأمان عند شخصياته عن طريق كهربة المنازل -مثلًا- بأجواء حانقة من الخوف والفزع والمجهول، فالبيت يمثل دائمًا رمزًا حميميًا للآمان عند الإنسان، والعبث بهذا المفهوم البديهي عن السكينة يدفع المرء إلى أطوار متقدمة من الرعب، على أن الأمر يزداد حدته إذا جعلنا المصدر الذي ينبعث منه هذا الكيان المجهول هو فردًا من أفراد المنزل، كما حدث معThe Shining من قبل مثلًا، حين رأينا الأب هو مصدر الخطر على أسرته.
عالم The Nun سلك هذه المسالك التقليدية والتي سلكتها مئات الأفلام من قبله، كما أنه ربط بين تواجد الكيانات الخطرة وبين بعض الألعاب كالغميضة في "The Conjuring" مثلا، أو كالدمية في Annabelle. بهذا الأقصوصة المرعبة تنتهك العناصر التي تمثل الحماية والأمان والسكينة والمرح والبهجة، فتربط بينها وبين المشاعر التي ترغب في بثها، فيصبح الأمر أكبر من مجرد قصة تدفقت في حدث معين، حيث تبدأ القصة في التدفق في الحياة عمومًا، متحررة من الحدث الذي ظهرت فيه، بعدما نجحت في الارتباط ببعض العناصر الثابتة في حياة الإنسان، والتي غالبًا ما تمثل مصدر الطمأنينة له.
هكذا ينتقل بنا الحديث إلى المعضلة الشعورية الحقيقة التي يسعى "The Nun" غلى معالجتها شعوريًا وقولبتها قصصيا، وأقصد هنا تعريض الملاذ الأخير للخطر، أو بتعبير آخر إقصاء هذا الملاذ الأخير من حياة الإنسان، فالإنسان عندما يداهمه خطر حقيقي ويفقد معه شعور الآمان والسكينة، يلجأ إلى الاله كمحطة أخيرة إن لم تكن أولية، وما تمتاز به هذه المحطة لا يكمن في كونها صاحبة القوى الأعظم فقط، بل في أزليتها، فالاله لا ينتهي وجوده في نفوس المؤمنين به، لا يموت ولا يفنى كما يمكن أن يحدث مع العناصر التي تسكب الطمأنينة في نفس الإنسان، وعلى ماتبدى لنا من قصة الفيلم -أو من مقطعه الدعائي على وجه التحديد- يمكننا الاعتقاد بأن الفيلم سيعبث بثبات هذا الملاذ الأخير، ففي تريلر الفيلم ننرى هذه الجملة بكل وضوح "God Ends Here" أو "الآله ينتهي هنا"، هي في الحقيقة عبارة مفزعة، وتصديرها في المقطع الدعائي بهذا الشكل سلوك ترويجي سليم، نحن سنقتحم مكانًا لا يخضع لسلطة الاله الذي نعود إليه في ملاذنا الأزلي الأخير، خطوة نصية جديرة بالاحترام تهول أكثر من خطورة الكيان الذي نحن على أعتاب الدخول إليه دون مبالغات بصرية ولا سمعية، مجرد جملة بسيطة مطفونة في الحوار، قد تصاغ بشكل عابر للغاية في أجواء الفيلم، لكن تأثيرها النفسي سيمتد وسيبقى، فهل "The Nun" سيستغل فكرته بأفضل صور ممكنة؟ وسيقتحم أكثير الصراع النفسي المشدود على هذه المعضلة الشعورية التي تنتج عن فقدان الإنسان لبؤرة الشعور بالآمان؟ أم أن الفيلم سيخزلنا؟!
بعد انتحار الراهبة الشابة "بوني آرونز" ترسل الفاتيكان كاهنًا مع متدربة لتحرى هذه المسألة كاشفًا الأسرار حول هذا الكيان الغريب الذي دفعها لهذا الفعل، هذا هو خط الأحداث الرئيسي، والذي يحوي خيط الصراع السميك داخل الأحداث، ولكن قد تتوازى بعض الخطوط الأخرى معه، فيصبح لها مؤداها الفني على حبكة الفيلم الرئيسية، فمثلا يظهر من الجزء الذي أنكشف من الحبكة أن الكاهن له صراع خاص مع ماضيه، قد تحدد هذه الخطوط الثانوية -إن كانت موجودة- المعاني التي يندفع الفيلم نحوها، وهذا مايتمنى أن يحدث. السيناريو من ﺗﺄﻟﻴﻒ جاري دوبرمان عن قصة لـجيمس وان، ومن إخراج كورين هاردي.
صدرت عن الفيلم العديد من الأفيشات، والتي كانت على مستوى -فنيًا- متوسط، إلى أن أستقر أخيرًا على أفيشه الرسمي، وهو أفيش تتشاطر فيه صورتين لشخصيتين تمتلكان طبيعتين متناقضتين، تتلو ألوانه شكلًا بصريًا معبرًا للصراع المفزع الذي ستخطو الأحداث بداخله، وكذلك صدر مقطعين دعائيين ربما لم يضيف الثاني منهما جديدًا على الأول. المقطعين:
في النهاية نتمنى أن تكون رحلتنا إلى هذا الركن الزمني والمكاني من عالم السلسلة رحلة غنية وممتعة، تتحقق فيها أعراض التجربة النفسية التي يستعرضها الفيلم وأغراضها، وتنجح في تنصيب أجواء الرعب النفسي بابتكارية واتقان، فالرهان الجماهيري كبير، وسقف الأمل في تجربة مثيرة مرتفع مع شريحة كبيرة من الجمهور، في انتظار الراهبة التي ستبدأ صلاتها في سينمات العالم بداية من السابع من سبتمبر.