على مدى المسيرة التي أدركت الأربعين فيلمًا، يمكننا أن نستشعر العناصر الثورية التي أنطلقت بها سينما شاهين طوال أكثر من نصف قرن، وبتتبع نمو هذه العناصر داخل هذا العالم الفسيح نجد أنها تطلبت لكي تبدأ في أطوار نضجها الأولية سنوات عديدة، وأفلام كثيرة، تلال من النيجاتيف والورق، وملاين السجائر لتحترق، وثرثرة طالت كل شيء، فنحن لا نتحدث عن مخرج بارع، بل نتحدث عن مدرسة أكاديمية متكاملة ومتنوعة، اخترقت كل الأنواع السينمائية، بأسلوب واحد، ومميز، تدركه حيثما تراه.
وليتشكل هذا الأسلوب بكافة خصائصه، كان لابد من تجارب ذات طابع خاص، تتيح للشاب الإسكندراني المهوس بالفن والحياة أن يكون لغته السينمائية. في هذه النظرة المتواضعة نحن بصدد الحديث عن الطلائع الثورية التي ظهرت في فيلم سيدة القطار وفي شيطان الصحراء والتي بدأت بدفع شاهين خارج السياق السينمائي المعتاد، وقدمت بعض الأبجدية من حروف سينما شاهين، حتى على الرغم من انخفاض مستوى الفيلمين عن باقي أعمال شاهين.
الميلودراما دائما وأبدًا عنصر رائج تجاريًا في أي فن من الفنون، وربما في السينما بشكل خاص، وبالحديث عن بدايات السينما، فمن المرجح أن الميلودراما كان لها تأثير أكبر وأعمق، حتى مع سطحية الكثير من الأعمال وقتها، على أنه كان يتم زرعها في مناخ مناسب، موسيقى مأساوية مرتفعة تنسكب على تعابير مسرحية جامدة، أما شاهين فكان ينفذ إلى حقول الميلودراما بطريقة أكثر نضجا، يعبر بصمت أحيان كثيرة، فيعطى للصورة مساحة تعادل مساحة الكلمات، أو تفوقها، كمشاهد احتضان الطفلة للدمية، أو غفوها في ستائر الأحلام على أنغام والدتها في سيدة القطار. من الملحوظ جدًا أن يوسف خلق مناخ مختلف للميلودراما، غير المستهلك والتقليدي، فهو يقدمها بطريقة قد تكون متناقضة تمامًا في الأساس مع مفهوم الميلودراما، كموسيقى غير ملائمة مثلًا، كأن تصيغ كابوس مشين في قالب شاعري، أو تقتل الناس وتغتصبهم على أنغام موسيقى ناعمة، أو مبهجة كما فعل ستانلي كوبريك في A clockwork orange على سبيل المثال. وهذه الشاعرية الجديدة هي سمة ربما كانت في طورها الأول هنا، إلا أنها أصبحت صفة حقيقية أصيلة في عالم شاهين ، رأينها مثلا في مشهد قتل الجندي من إسكندرية ليه أو في مشهد القتل الجماعي في نهاية عودة الأبن الضال.
من المشهد الإفتتاحي لـسيدة القطار، يعلن شاهين -وهو ابن الستة وعشرين عام حينها- قدرته الفائقة على إدارة مشروع كامل، وتحريك جموع غفيرة، كان المشهد لجمهور في عرض غنائي، وهو بداية مفيدة للمران الاخراجي، والداعي لقول ذلك أننا وجدنا مشهد يحمل روحه تمامًا في "إسكندرية ليه"، حيث كان يقدم يحيى فقراته المسرحية أمام الأميرة. نفس الحال مع تسلسل النهاية في شيطان الصحراء، والذي قدم بروفة رفيعة المستوى لتحريك الجموع في مشاهد القتال، ولفلسفة تصوير تلك اللقطات، رغم كريكاتيرية الفيلم ككل، إلا أن هذه اللحظات ربما مهدت لخيال شاهين الخصب المجال لكي يخلق لنا مشاهد رائعته الناصر صلاح الدين.
دائما مانسمع عبارة "الهدوء الذي يسبق العاصفة"، في عالم شاهين هذا الهدوء له هيئة خاصة، فهو لا يرسل عقلك بعيدًا عن ترجيح الواقعة التي ستحدث كي تتفاجأ بها، بل يعطيك رسائل خافتة، يجوف بها هذا الهدوء، حتى تدرك أنك أمام عاصفة، أو تشعر بذلك ولو حتى بشكل غير مباشر، يسرق كامل اهتمامك للحظات حتى ترسخ نظراتك على الحدث، لكنة هتشكوكية أصيلة، إن لم تكن فعالة في توظيف التوتر والقلق، فهي على الأقل تستدعي انتباهك وتنبهك، فمثلًا التسلسل الكامل الخاص بحادثة القطار في سيدة القطار جرى التمهيد له بشكل مبتكر جدًا، راكب يحصي سرعة القطار، ولقطات تقريبية على العجلات والقضيب، تسلسل الارقام المتتالي اعطى شعور بالأهمية، عملية الاحصاء كانت اشبه بميقات القنبلة، لكن الفارق أن العد هنا كان تصاعدي وليس تنازلي.
رسم جديد لحظات الهدوء، ربما شاهدنا مثله في مشاهد من باب الحديد، عندما أهدت "هنومة" "قناوي" زجاجة من دلوها في محاولة لكسب وده، وبعد لحظات من الصمت والسكون يتحرك "قناوي" ليسحب الزجاجة، يشرب ويرقص، في مشهد أيقوني من الفيلم ومن سينما شاهين عمومًا، بهذا السلوك ننتبه ان "قناوي" يستزيد في ثورته، وأنه مقدم لا محالة على جريمته، حلقة جديدة مهدت لهذه الجريمة من بعد لقطة الصورة الممزقة للموديل في المجلة، والتي قص رقبتها قناوي.
ربما أفلام شاهين الأولية كانت بسيطة، ساذجة، وتنخفض عن باقي افلامه في المستوى، لكنها كانت ورشة حقيقة للتجريب والتدريب، بناء الدراما، وصناعة الملاحم، وفرصة جيدة لاتصال الممارسة، واختبار كافة عناصر التجربة.