على مدار السنوات الأخيرة قدمت السينما التونسية عددًا كبيرًا من المواهب السينمائية الشابة، مخرجين ومخرجات ومنتجين على تواصل بالعالم كفلوا للفيلم التونسي التواجد الدائم في أكبر المهرجانات العالمية، إلا أن نجيب بلقاضي، الذي عرفه الجمهور التونسي ممثلًا ونجمًا تلفزيونيًا قبل أن يتجه للإخراج، امتاز عن باقي مجايليه بمسيرة سينمائية خاصة، لا تنبع فقط من خلفيته التمثيلية وإنما ترتبط بالأساس بنوعية الأفلام المغايرة التي قدمها.
فيلمان طويلان سابقان، تسجيلي بعنوان "VHS كحلوشة" عن سينمائي تونسي هاو صنع عشرات أفلام المغامرات الرخيصة التي يعرضها على سكان مدينته التي صار نجمًا فيها دون أن يعرفه أحد خارجها، وروائي بعنوان "بستاردو" تدور أحداثه في حيّ خيالي يرتبط البشر فيه، شكلًا ومضمونًا، بالحيوانات والحشرات، حتى يقرر شاب لقيط أن يغير موازين القوى في الحي. ملخص الفيلمين يوضح سبب اختلاف بلقاضي حتى لمن لم يشاهد هذين العملين الفريدين، فهو مخرج بدون مرجعية واضحة على الأقل على المستوى العربي، يأتي بأفكار بالغة الغرابة ويصيغها بصورة ممتعة لتؤدي لأفكار أعمق من مجرد الحكاية، المسلية في صورتها المجردة.
نظرًا لما سبق، كان من الطبيعي أن نترقب فيلم نجيب بلقاضي الطويل الثالث "في عينيّا"، والذي أقيم عرضه العالمي الأول قبل أيام ضمن قسم سينما العالم المعاصرة بمهرجان تورنتو السينمائي الدولي الثالث والأربعين. خاصةُ وأنها تجربة جديدة يخرج فيها المخرج الموهوب من خطر التصنيف، ويقرر أن يقدم للمرة الأولى حكاية واقعية، قاسية وحميمية.
عن أب وابن.. إلا قليلًا
يبدأ "في عينيّا" في مارسيليا الفرنسية، شاب تونسي مهووس بذكورته ـ شكلًا وخلقًا ـ يستعد لاستقبال طفله من حبيبته الفرنسية، من الدقائق الأولى يبدو لطفي (نضال السعدي) أبًا مشكوكًا في صلاحيته، يحوّل أقل مشكلة لشجار بالأيدي، وعندما تسأله حبيبته عما سيفعل إذا ما حدث ذلك أمام طفله، يجيب بتلقائية "سيكون هناك إذن شخص إضافي يقاتل في صفي"! لوهلة يبدو الأمر متعلقًا بتحدي الأبوة المُقبل، قبل أن تصل مكالمة من الوطن تجعلنا ندرك أنه ليس التحدي الأول في حياة لطفي، بل إنه موجود في فرنسا بالأساس هربًا من تحدٍ آخر فشل في مواجهته، فهو متزوج ولديه طفل مصاب بالتوحد تركه قبل سنوات، والآن تجبره الظروف أن يعود إلى تونس ليعتني به.
ما سبق هو ملخص للدقائق الأولى للفيلم، لا يحرق أي أحداث لأن دراما الفيلم وأحداثه تبدأ من هذه اللقاء المؤلم بين أب وابن كلاهما يحتاج بطبيعته لرعاية خاصة: أب يفتقر للانضباط العقلي والجسدي اللازم حتى لتنشئة طفل طبيعي، وابن حتى أكثر الآباء إخلاصًا وتفانيًا كان ليعاني ـ بل وينهار ـ في لحظات من صعوبة التعامل معه.
مهمة تبدو مستحيلة، خاصة وأن لطفي يدخلها على طريقته، يصمم أن يرمي كل ما يقال له وراء ظهره، ويحاول إيجاد طريقته الخاصة في التعامل مع يوسف، ليصير الأب وابنه وجهان لعملة واحدة اسمها الوقوف في وجه العالم.
صحيح أن لطفي ليس متوحدًا لكنه يمتلك عقله المتفرد وطريقة إدارته المختلفة للأمور، التي تجعله في لحظة وحده في مواجهة الجميع، كلما استدار سواء صوب مارسيليا أو تونس، وجد مشكلة معقدة لا يملك حيالها إلا مزيد من الكذب والتلاعب، فما بالك عندما يقوم بذلك وجواره طفل خاص مثل يوسف؟
عن العيون والعدسات
الفيلم إذن يمكن تصنيفه بشكل أو بآخر كفيلم نضج Coming of age، صحيح أن بطله يفوق المرحلة العمرية المعتادة لأفلام النضج بعقدين على الأقل، لكنه في النهاية يخوض رحلة النوع عينها: يتعرض لخبرة حياتية تجعل من المستحيل أن تستمر حياته بالصورة التي كانت عليها وتستوجب منه أن ينضج عقليًا ويكتشف آليته الخاصة لمواكبة وضعه الجديد.
نستخدم هنا كلمة "آلية" وليس "طريقة" أو "وسيلة"، لأن الأمر هنا لا يتعلق بنضج لطفي على المستوى النفسي، فحتى لو صار قادرًا نفسيًا وذهنيًا على تحمل مسئولية يوسف، فإن التعامل مع الصبي يتطلب إيجاد لغة مشتركة، أداة يمكن من خلالها كسر الحاجز المفروض بحكم المرض حول الابن. لاحظ أن اسم المرض هو "التوحد"، الانعزال عن الآخرين، وعلى لطفي إن أراد أن يصير أبًا خلق ثقب في السور الذي يفصل يوسف عن العالم، أن يكسر توحده ولو للحظات قليلة.
يجيد نجيب بلقاضي هنا، على مستوى السيناريو والإخراج، زرع مفاتيح الآلية التي يجدها والده. "في عينيًا" هو العنوان والجملة المتكررة على لسان الأب الذي يلاحظ أن ابنه لا ينظر أبدًا في عيني محدثه، بل يكره العيون بشكل عام، كراهية تدميرية لا شك أن محركها خوف وعجز عن التواصل. وعلى طريقة القطاع الأعرض من الفنانين الموهوبين في تاريخ السينما: إن لم تكن عيناك قادرتين على التواصل المباشر، فالحل هو إيجاد وسيط يريك العالم دون نظرات مواجهة، وسيط اسمه الكاميرا التي لطالما أعانت من هم أكبر من يوسف على كسر عزلتهم، بل واستخدام هواجس الخوف الاجتماعي كمادة خام للإبداع.
انطلاقًا من هذا يمكن اعتبار "في عينيًا" في أحد مستوياته تحية حب للكاميرا، للعدسة التي تجعلنا نرى العالم بصورة أوضح، وربما أكثر حميمية، تمامًا مثلما يكتشف لطفي بشكل تلقائي، كيف يمكن أن تكون هذه الآلة الصماء وسيلته للتقارب مع ابنه الذي يزعم العالم كله إنه من المستحيل أن يتقرب منه.
تفاصيل لوحة رقيقة
المخرج نجيب بلقاضي يعي جيدًا حدود حكايته، يتفهم البعد المأساوي فيها والمتمثل في أن أي لحظة سعادة أو وفاق مهما طالت، هي بالضرورة مؤقتة لا بد وأن يتبعها ألم وإحباط جديد، مأساة يدركها كل من واجه أو راقب حياة طفل كيوسف. لكن المأساة ليست البعد الوحيد، فهناك الحب الصادق، القادر على التعامل مع وضع عسير، وإيجاد نقاط لقاء ولحظات من الصفاء والتحقق، فمن يمكنه أن يتواصل مع يوسف هو من يصل ـ ولو للحظات ـ لدرجة من النقاء تضعه على نفس موجة هذه الروح البكر.
بين الأمل والألم، والذكورة المفرطة عندما توضع تحت ضغوط تجعل الانفجار في البكاء نتيجة بديهية، يرسم بلقاضي حكايته باستخدام تفاصيل صغيرة: رسوم وصور وشموع وريش داخل وسادة، وبالطبع عدسة كاميرا، ليخلق دراما زخمة، بصرية بالأساس، موضوعها التناغم غير المتوقع، الأشبه بالسحر، والذي يتجسد في مشهد نهاية هو الأكثر رهافة في كامل إنتاج السينما العربية خلال عامنا الحالي، وهو نجاح سردي ملفت أن يصل الفيلم بشخصيتين أحدهما مفتول العضلات يتصرف كالمجرمين، والآخر لا يتوقف عن الصراخ المزعج، إلى نقطة من الحميمية يصعب ألا تتساقط معها دموع حتى أكثر القلوب صلابة.
"في عينيًا" عمل درامي بديع، مُعقد على بساطته، يراوغنا بموضوعه فيجعلنا نتوقع فيلمًا عاطفيًا عن ضحايا حالة مرضية مؤلمة، قبل أن يفاجئنا بحكاية أكثر رقة ونداوة، وفيلم قادر على البقاء في عقل وقلب من يشاهده لأيام وشهور.