شاع فيما شاع بابا أمين أن أول أفلام العبقري الراحل يوسف شاهين كان تمصيرًا ذكيًا لرائعة فرانك كابرا إنها حقا حياة رائعة.
وكون الأمر عسير قليلًا على الملاحظة لا يعنى أبدًا خطأ الشائعة، ولكنه بكل تأكيد يعني وجود حبكة جديدة وناضجة للمعالجة الدرامية التي قدمها الفيلم، والأمر في أنها لم تكن نقلا صريحًا أو واضحًا، بل تأثر قصصي طفيف، ومجاراة شعورية قريبة.
ولتحقيق استبيان العلاقة بين العملين أكثر، ينبغى أن نتأمل بنظرة عامة على النهج الشاهيني في صناعة الأفلام، وبهذه النظرة يمكن انتشال حقيقة يسيرة على الملاحظة، وهي أن شاهين لا يجعل من سيناريو الفيلم بطلًا للأحداث، بل يحرك شخوصه داخل القصة المطلوبة، في حالة شعورية خاصة، مصدرًا تلك الحالة إلى واجهة المتابعة، فتصبح الأجواء العامة هى العنصر العالق في الأذهان، وتأتي في أولوية التلقي عند المتفرج قبل النضج السينمائي نفسه، فالمشاهد يجد الشخصيات تتحدث وتتحرك بطريقة خاصة، في ديكور وملابس مميزين، تحت قبة موسيقية ساحرة، فتكن الحالة التي نصبها الفيلم بالتكوين المرئي والشريط الصوتي هي أول مايسحب الأذهان، وآخر ما يرحل عنها، وهذا بالتأكيد لا يعني التهاون في الكتابة النصية، ولكنه يعني ترتيب أولوية في خلق العالم السينمائي، وفي صياغة قصصه وصراعاته، لذا نجد أن شاهين يقدس مفهوم سينما الحالة، فيصبح شغله الشاغل هو بث الحالة في وجدان المتفرج.
لذا نجد أن التأثر هنا يعني أكثر بالحالة والشعور التي قد تنتج من الفكرة الاجمالية، ومن الحبكة والمعالجة بشكل خاص، فقد كان فرانك كابرا يناقش قضية الوجود الإنساني، مارًا بالشعور الذي ينتاب المرء حينما يفقد الأمل في إصلاح حياته، فيتمنى أن ينتهي وجوده، وعن طريق ملاك يبدأ بطل الفيلم في مشاهدة شكل الحياة بدونه، على أن الفيلم كان في معظمه (أي حوالي ثلثيه الأولين) يصور حياة البطل وهو لازال قائمًا فيها، أما شاهين فقد أعطى الزمن الأكبر للجزء الذي يتابع فيه البطل حياته بعد رحيله، على عكس ما فعل كابرا، مما يؤكد على تعلق شاهين الأكبر بالحالة والدراما ربما أكثر بكثير من القصة في حد ذاتها، وعندما اختار أن يتأثر أو يقتبس كان اختياره معنيًا أكثر بما قد يثير الدراما، ويغذي الشعور، ويبث الحالة.
ومن الملفت أيضًا أن معالجة شاهين للفكرة كانت قاسية أكثر على البطل، بالرغم من احتفاظها بنفس الروح الهزلية المرحة، فجيمس ستيوارت في "إنها حقًا حياة رائعة" كان شخصا متهربًا ومتخاذًلا، سئم من تفاقم المشكلات، لكن "بابا أمين" كان مخطئا في حق آله، ومتسببًا في حياة بائسة ومفجعة لهم، وفي قسم الفيلم الأكبر نتابع الاثار السلبية التي خلفها فيهم، وهذا يؤخذ على محملين: المحمل الأول هو القسوة على البطل فيما يتعلق بلومه، المحمل الثاني هو شعور الضيق أو بالأحرى الغيظ الذي قد ينمو حينما تجده عاجزًا عن تغيير الوضع رغم وجوده، وهذا بدوره ينقلنا إلى السمة التي تحدثنا عنها، وإدعينا أن سينما شاهين تعني بها، وهي الانغماس تمامًا في الحالة، فشخصية "أمين" لا نراها إلا مراقبة طوال الفيلم، تشاهد آثار ما فعلته سابقًا، ولكنها لا تحرك اي مادة في الحاضر، أي أنها لا تفعل أي سلوك سوى المراقبة أمامنا، ولكن حضورها كان فعال، والتأثير هنا في بناء الدراما والحبكة من قبلها، لا في تحريك الأحداث وتصعيدها. شاهين معني بالتأثير الدرامي ربما أكثر بكثير من التاثير على مسار الحدث.