☆ بعد إنتهاء "سكورسيزي" من تصوير آخر مشاهد Goodfellas عام 1990، لم يكن هناك وقت للراحة وإلتقاط الأنفاس؛ كان عليه الإتجاه إلى اليابان لتلبية دعوة العظيم "أكيرا كورساوا" للمشاركة بدور (فان جوخ) في فيلم Dreams. و أثناء الرحلة، وخزته كلمات كاتب ياباني يدعي "شيساكو اندو" .. شد إنتباهه مدي التعمق الديني للرواية، وهو ما دفعه لأخذ القرار بتحويل الرواية لفيلم في أقرب وقت ممكن؛ ونقلًا عن لسان "مارتي": (ما أن قرأت الرواية حتى عرفت في قرارة نفسي أني سأحولها إلى فيلم لكني كنت انتظر الوقت المناسب).
لقرابه الثلاثة عقود لم يتخلى "سكورسيزي" عن حلمه.. فليس من السهل أن تجد من يغامر بإنتاج عمل ضخم مثل هذا العمل، حتي وإن كان القائمين عليه أسماء في وزن السير "داي لويس"، "خافيير بارديم"، "بينسيو ديل تورو"..
تلك الأسماء بالفعل رشحت للقيام بشخصية (الأب فيريرا)، ولكن عائق الإنتاج أدى إلى تأجيل العمل عدة مرات وعدة سنوات، فاعتذر احدهم ويأس الآخر؛ ولكن "سكورسيزي" بقي على شغفه، حتى استقر علي "ليام نيسون" و"أندرو جارفيلد" و"آدم درايفر" لمشاركته رحلته الروحانية.
☆ القصة (ما بين الرواية و 4 أفلام):
رواية ملحمية كتبها الياباني الكاثوليكي "شيساكو إندو" عن ما مر به أسلافه وأجداده، وهو ما أضفى لها مزيد من المصداقية والعمق والواقعية؛ ويقول "إندو" أنه اقتبس جزء كبير في روايته من فيلم La Strada للأيقونة الإيطالية "فيدريكو فيليني".
ما أن تنخرط في القراءة، سترى أن الشخصيات تتجسد في أجواء سينمائية لها أبعاد إنسانية مميزة كفيلة بإغواء مخرج مثل "سكورسيزي" عرف عنه ولعه بمثل هذه الشخصيات؛ ولكن لم يكن "مارتي" الضحية الأولى لإغواءات الرواية؛ فقد سبقه المخرج الياباني "ماشيرو شينودا" وقدم الرواية في فيلم يحمل نفس العنوان عام 1971 ولكن الفيلم لم يلقى نفس الرواج والنجاح.. ولا عجب في ذلك، فإسم "مارتن سكورسيزي" وحده عنوان لكل عمل عظيم.
كما أن "مارتي" لم يكن أول من تناول قضية صمت الإله، فقد سبقه فنان الأماكن المغلقة "إنجمار بيرجمان" بمناقشة نفس القضية ولكن بصورة مختلفة نوعًا ما في ثلاثية عظيمة اختتمها بفيلم يحمل نفس العنوان Silence.
وهنا جاء ذكاء "سكورسيزي" في التعامل مع الرواية بتسليط الضوء على مدي عمق الإيمان أكثر من تركيزه علي قضية صمت الإله تجاه معاناة الخلق وتساؤلاتهم.
تدور أحداث الرواية/الفيلم في القرن السابع عشر، تلك الفترة التي عرفت بالقمع الديني بلا رحمة للأقليات في اليابان، بل و لكل ما يخالف الديانة البوذية في تلك الفترة؛ مما دفع أتباع المسيحية لممارسة ديانتهم مختبئين تحت الأرض، وظهر ما عرف لاحقًا في التاريخ الياباني (المسيحيون المختبؤون) لتبدأ القصة بخروج إثنان من الرهبان من البرتغال إلى اليابان بعد سماعهم عن إرتداد معلمهم عن الديانة المسيحية الذى يعد صدمة لهم تدفعهم للبحث عنه؛ و ما أن تبدأ رحلة البحث حتى نكتشف أنها ليست رحلة بحث عن شخص مفقود أو حتى رحلة بحث عن حقيقه إلحاده .. لكنها رحلة للبحث عن الإيمان ومدى عمقه بداخل النفس البشرية، وكم التضحيات التي يتطلبها الأمر.
☆ السيناريو:
ضبط النص السينمائي وحده استغرق حوالي 15 عامًا؛ أراده سكورسيزي عن عمق الإيمان فوجد ضالته ومبتغاه، فأثرى الفيلم ببعض الجمل الحوارية التي طرحت عدة تساؤلات عن الإيمان والشك والضعف ودور الإله حيال معاناة البشرية والقضايا الأهم (صمت الإله؛ الإيمان)
ولكل من اتهم السيناريو بفجوة الأحادية والمنظور الواحد.. إتهامكم باطل؛ ففي مشهد غاية في العبقرية، اجتمع الأب المرتد -في نظر البعض- "فيريرا" مع الأب المتمسك بعقيدته أو كبريائه علي حد سواء "رودريجز"؛ وقام "فيريرا" بشرح الطبيعة الدينية لليابانيين من منظورهم الخاص وكيف يقيمون الأمور أو يتخذون الإله.
"من أكثر الجمل الحوارية التي أثارت إعجابي"
☆ الأداء:
"آندرو جارفيلد"
مثلما ذكرت من قبل.. كان العام الأكثر حظًا في تاريخ "جارفيلد" السينمائي بتعاونه مع كل من "سكورسيزي" و"جيبسون" في عملين لهم الطابع الملحمي القوي: Hacksaw Ridge ،Silence، جسد في كلاهما شخصية محورية لها تأثير ملحوظ على من حولها .. كلاهما له عقيدة وإيمان بقضية معينة.. كلاهما أظهر الأداء المحترم البعيد عن هراء Marvel وكلاهما تدور أحداثه في اليابان!
ولكن بكل أسف الأكاديمية حرمتك من المجد، حرمتك من دخول التاريخ السينمائي مرتين..
المرة الأولي بحرمانك من ترشيح مزدوج مستحق لأفضل ممثل في دور رئيسي والإكتفاء بترشيح واحد عن Hacksaw ridge و الثانية عندما شهدنا تتويج "كيسي أفليك" بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل رئيسي؛ ولكن ليكن شفيعك إنك قدمت عملان مميزان يستحيل محوهما من الذاكرة؛ وإن المنافسة لتلك الفئة كانت شرسة، ولم تكن سهلة علي الإطلاق.
"ليام نيسون" ؛ "ادم درايفر" ؛ "يوسوكي كوبوزكا" و كل الممثلين اليابانيين التي تصعب قراءة أساميهم كلهم أبدعوا أيضًا بدورهم، برغم الرعونة في الأداء التي شعرت بها أحيانًا من "درايفر"، إلا أنها مبررة في ظل المخاطر والضغوط النفسية التي تتعرض لها الشخصية.
☆ التصوير:
"رودريجو برييتو" إستطاع في تعاونه الثالث مع "مارتي" أن يخلق مشاهد آخاذة مبهرة بصريًا لأبعد الحدود؛ كادرات واسعة أظهرت الطبيعة الجغرافية اليابانية القاسية آنذاك، مما يعكس صعوبة الظروف التي مر بها (المختبئون)؛ كما ساعدت تلك الكادرات علي تأطير مشاهد التعذيب لتصل بها إلي حد العبقرية -خاصة مشهد الصلب علي البحر-.
إستخدام عدسة الكاميرا الحمراء تم توظيفها بشكل موفق جدًا في بعض أوقات الفيلم التي تطورت فيها مشاهد التعذيب إلى الدموية.
"رودريجو برييتو" أجاد بدرجة إمتياز واستحق الترشح بجدارة، كما أنه المفضل للمكسيكي "أليخاندرو ايناريتو" بأربعة تعاونات سابقة.
☆ الأزياء و الديكور:
أحد عوامل نجاح الفيلم بدون شك؛ ديكور ممتاز لهيكل المعبد البوذي ومجلس الحاكم، ولكن يؤخذ عليه عدم ظهور رمز عبادتهم (تمثال بوذا) والاكتفاء بالإشارة للشمس (داينتشي) ابن الإله الذي يظهر بشكل يومي متجدد ولا يموت.
الأزياء كان لها دور هام جدًا في التأثير النفسي للشخصيات؛ للحظات نشعر أن العباءة اليابانية تحمل بين طياتها ديانتهم ومعتقداتهم وثقافاتهم، لذلك يتم إجبار الرهبان علي ارتدائها لمحو كل ما له أثر مسيحي من الخارج قبل الداخل.
☆ شريط الصوت:
عدم استخدام موسيقى تصويرية والإكتفاء بصوت الراوي فكرة عبقرية متماشية مع عنوان الفيلم؛ وتغير صوت الراوي من "ليام نيسون" إلى "جارفيلد" ومنهم الي طرف ثالث مجهول له هدف منطقي.. إن الرحلة لن تنتهي بإرتدادهم عن عقيدتهم أو تمسكهم بها؛ الرحلة التبشيرية ستنتقل من شخص لآخر ولن تتوقف أبدًا.
☆ الإخراج:
من المعروف عن الإيطالي الأمريكي نزعته الدينية التي تظهر أحيانًا في شخصياته.. قدم "مارتي" عام 1988 أحد أعماله الخالدة The last temptation of christ، والذي أبدع فيه بالتركيز على جانب التعذيب النفسي المعنوي أكثر من الجانب الجسدي المادي، ورغم عدم خلو الفيلم من المشاهد العنيفة؛ ولكن إذا كنت تظن إنها مشاهد تعذيب مروعة، فعليك بمشاهدة نسخة "ميل جيبسون" لتشعر بمدى المعاناة والألم ومدى قسوة مشاهد التعذيب.
لذلك أعتقد أن أسلوب "مارتي" لم يتغير كثيرًا؛ فلقد استغل الأداء الصوتي المميز لـ"ليام نيسون" لشرح طرق التعذيب بالتفصيل رغم وضوحها نسبيًا من أجل توثيق فكرة المعاناة النفسية للمشاهد - وهو ما لا يعيب اسلوبه علي الإطلاق-
يحسب لـ "سكورسيزي"/"إندو" خبرته في تنظير الشخصيات؛ تشبيه الأب "رودريجز" بالسيد المسيح خطوة جريئة كان من الممكن أن تأخذ منحنى درامي مختلف، خاصة إذا تعرض "رودريجز" للتعذيب الجسدي مما قد يدفع اتباعه لاتخاذه قدوة ومثل أعلى لبناء قاعدة تمرد علي الديانة البوذية وتهديد الطبقة الحاكمة.
☆ الفيلم طرح عده تساؤلات ولم يجب على بعضها، ولكن مشهد النهاية العظيم أجاب على أهم سؤال؛ ما مدي قوة وعمق الإيمان بداخلنا!! مشهد يحكي الكثير والكثير ولكن إذا إحتاج لعنوان بالتأكيد سيكون: "الإيمان في القلوب"
"سكورسيزي" قدم دراما ملحمية ستخلد في التاريخ؛ عمل كهذا لا نراه كل عام أو حتي كل عقد؛ لذلك يستحق كل الثناء والتقدير الذي لم يحصل عليه من لجان الجوائز ولكن لن نتحدث عن تواجد الفيلم في موسم الجوائز من عدمه.. فكل من شاهد تحفه "مارتي" الروحانية سيدرك تمامًا أن ما قدمه قد فاق الذهب!!