هُناك حالة خاصة في مُشاهدة فيلمٌ ما في دار العرض، فالقاعة تكون مُظلِمة، أجوائها هادئة، أنتَ في السينما لا تأخذ راحتك كما تفعل حينما تستلقي على أريكتك الوثيرة في بيتِك، كما أنّ الصورة تعرض أمامك بأفضل ما يُمكن أن تكون عليه: شاشة كبيــرة.. لذا فحين يتعلق الأمر بالـ"موود" الخاص بأحد هذه الأفلام التي تخطفُكَ معها لعوالمها خطفًا، فإنّ دار العرض السينمائية يُمكن أن يكون لها ضِعف التأثير.
هذه هي أفضل وسيلة في ذهني حاليًا لبدء الحديث عن الفيلم النرويجي "Thelma" الذي عرض في اليوم الثاني من بانورما الفيلم الأوروبي الحادية عشر، وهو ليس بالفيلم الحديث، فقد صُدِرَ في الأشهر الأخيرة من العام الماضي.
فيلم ثيلما يتبع صنف الدراما/الفانتازيا، بقليل من الرعب.. وهو العمل الروائي الطويل الرابع للمخرج "يواكيم تراير" الذي قدّم بعضًا من أهم أفلام السينما النرويجية في السنوات الأخيرة، أشهرها بين الجماهير هو (Oslo, August 31 st)، وقصة الفيلم تحكي عن الفتاة التي تبدأ عامها الجامعيّ الأول في العاصمة النرويجية "أوسلو"، وهي المرّة الأولى التي تنفصل فيها عن والداها الملتزمان دينيًا. تجد الفتاة نفسها في مجتمع غريب ومختلف عليها، قبل أن تقع في حب إحدى زميلاتها في الصف، وبينما هذا يحدث تتفاجئ ثيلما بامتلاكِها قوىً فيزيائية لا طبيعية (سوبَر ناتشـورال)، وهُنا تأخذ الأمور منحىً آخر مختلف في حياتِها..
الآن (ثـيـلـمـا) هو فيلم عرض منذ فترة وموجود على الإنترنت منذ مطلع العام، لكنه يُعرَض في البانوراما الأوروبية، فما الذي قد يدفع شخص بالذهاب لدار العرض لمُشاهدته؟.. برأيي هذا الفيلم من أبرز الأفلام التي ينطبق عليها فكرة أهمية دار العرض كمكان أوّل وأساسي في مُشاهدة الأفلام. صحيح أني لم أُشاهده سوى مرّة على الشاشة الكبيرة، لكني متأكد أن كثيرًا من متعته والحالة الشعورية المقصودة منه، التي يريد وضعك فيها، كانت لتقلّ -أو لتُفقَد نهائيًا- إن كنتُ شاهدته على شاشة حاسوبي الصغير في بيتي، والله أعلم!
الفيلم من النوع بطيء الإيقاع نسبيًا الذي يريدَك أن تسرح معه قليلًا، ومع هذا السرحان يدخُل الفيلم بعد انقضاء حوالي ثلاثون دقيقة منه، إلى حالة أشبه بالتنويم المغناطيسي معك... هُناك هذه الأفلام التي أعتقد أن جميعنا اختبرناها ولو مرةً واحدةً قبلًا التي تجعلك تأخذ نفسيًا عميقًا بعد انتهائها، كما لو كنت هبطت للتو من سفينة فضائية عائدًا للأرض. عالَم أخر هُنا..
كفانا تشبيهات إذن، لنتحدث عن بعض من عناصره القوية التي تُميّزه بشدّة في صنفه كفيلم يمزج بين الفانتازيا والرعب النفسي، أو بالأحرى؛ كفيلم تشويقي الأسلوب، وفانتازي القصة..
.. .. .. .. ..
أولى حسنات الفيلم هي اعتماده الكلي تقريبًا على الصورة كي يسرد الحكاية، دون الإستعانة بالحوار إلا في القليل، وربما مخرج العمل اختار هذا، قاصدًا على فيلمه أن يكون عالميًا في التواصل والاستقبال أكثر منه محليًا.
ثاني حسناته هي قوة السيناريو؛ فبناء الحكاية كان رائعًا، وهناك ما يُمكن تسميته "تهميش الحدث الحقيقي في القصة" في مراحل الفيلم الأخيرة، أعتبرُهُ من أهم أسباب قوة العمل ككل. الفيلم كما لو كان مقسومًا لنصفين؛ النصف الأول نحن نتابع القصة على حافة مقاعدنا، وإيقاع الحكاية ذاته هُنا سريع للغاية، أما الأربعون دقيقة الأخيرة فالقصة تقل إثارتها ويقل اهتمامُنا بالحدث الذي نتابعهُ فيها، لكن الأمور تتبلور من جديد في النهاية. مع ذلك، هي أبعد ما تكون عن تلك النهايات التقليدية المقروءة في الأفلام الهوليووديّة التي ينتظر فيها المُشاهد فصول الفيلم الأخيرة حتى يعلم أو يفهم الأشياء، هذا لا يحصُل هُنا. أحيانًا كنت أنظر لأحد المَشاهد وأقول: نعم، هُنا سيأتي البلوت تويست.. لكنّ هذا ليس نوع فيلمُنا رغم أنه يحتمل الكثير من المفآجات بسبب طبيعته الفانتازية المنافية للمنطق.
الفيلم قُرب الخِتام يقوم بشيء ذكي للغاية يجعلني أقدّره وأقدّر صانعه فعلًا؛ فهو يصل إلى منطقةً تكون فيها أحداثه -الغير مفسرة- غير مهمة هل حصلت أم لا، كما لو كانت هذه المنطقة هي براح فضائي يتركك تسبح فيه لتختار أنتَ الطريقة التي تريد أن ترى بها الفيلم، أو كأن الفيلم ذاته يتبرّأ من وجهة النظر المفروضة سلفًا أن يملكها!
.. .. .. .. ..
السيناريو الذي شارك مخرج الفيلم في كتابته كما أسلفت وذكرت؛ فعلاقة "ثيلما" بأبيها التي يشوبها الغموض على مدار الأحداث كلها كان له دور في تصميم شخصية الفتاة المُستَضعفة دائمة التعلُّق بالأب، فهي تعودت على إخباره أصغر الأشياء، وهو "الوحيد التي تشعر بالراحة في الفضفضة له بكل الأشياء في حياتها" كما تُخبر صديقتها.
موسيقى الفيلم التشويقية الملائمة للغاية للأجواء، فهي لم تأتِ مُكلّفة، أو مقحَمة أو تقليدية حتى، بل جائت جديدة على الأذن كما الحال مع الفيلم ذاته الذي يريد أن يقصِد الاختلاف في توجهه نسبةً إلى الصنف الذي يضع نفسه فيه.
استخدام المكان كان له دور أيضًا.. قرأت مرة أن أهم شيء في الفيلم الرعب هو المكان الذي تدور فيه الأحداث (أُفكّر مثلًا في حالة فيلم "The Shining" لستانلي كوبريك).. هُنا يوجَد استخدام هام في القصة للمكان حتى ولو لم يكن الفيلم "فيلم رعب" فعلًا، فنجد أن أشياء كثيرة في قصة ثيلما تحدث بسبب (وجودها) في مكان غير اعتيادي ومختلف عليها كالجامعة التي تضطر معها للابتعاد عن والداها اللذان يحرصان على مكالمتها يوميًا. كما أن معظم أحداث القصة من حولها تدور في المحيط الجامعي/الدراسي لها. وإن لم يكن هذا، فهي الطبيعة؛ بحار وغابات وأشجار..
التصوير الخلّاب بالطبع، الفيلم ممتع جدًا بصريًا ليس فقط بسبب طبيعة المكان المُصوّر كالطبيعة أو الشوارع النرويجية، لكن أيضًا بسبب إيقاع الكاميرا الهادئ الملائم لحالة الفيلم.
لكن ربما أهم شيء هو استخدام الفلاشات الضوئية. الفيلم يبدأ قبل عرضه بتحذير أنه سيوجَد به ألاعيب ضوئية قوية في بعض المشاهد. تلك الفلاشات بعيدًا عن كونها جذابة أصلًا في حدّ ذاتها (مُستخدمة بطريقة مبهرة للغاية في بداية الفيلم الألماني "Victoria" مثلًا).. هي هُنا ساهمت في شيء من حالة التنويم التي يضعنا فيها الفيلم بالأسلوب الهادئ والمتأمل الذي يسرد المخرج به القصة.
فيلم "ثيلما" ليس فقط فيلم تشويق وفانتازيا نفسية نادرًا ما نُقابل مثله بسبب طبيعة هذه الأفلام التي تُصنع تحت عباءة شركات الإنتاج العملاقة، بل هو أيضًا فيلم جرئ ومختلف وبه تجريب واضح على صعيد السرد؛ كتحطيم ما يمكن إطلاق عليه "معضلة إنسبشَن" قُرب ختامه (هل "كوب" كان يحلُم في مشهد الفيلم الأخير، أم لا؟).. هذا فيلم صُنع كي يعرض في تجربة سمعية وبصرية فائقة، ووحدها السينما هي القادرة على توفير ذلك.