«العديد من الصور التي رأيتها لا أتذكرها، لكن بعض الفيديوهات محفورة في ذاكرتك. يبدو الأمر كما لو كان مزحة، لم نكن نعلم أنه حقيقيًا.. كان يُحاول قتل نفسه مستخدمًا حبلًا، كان الفيديو مُباشِر، ليس مرفوعًا.. مباشر (لايڤ) حقًا، العديد من الناس كانوا يُشاهدون.. الآلاف.. كانت هناك تعليقات كـ"لا تفعل، لا تقتل نفسك!"، "لا تقوم بالانتحار!"، وآخرون كانوا يمزحون؛ "هيا، افعلها، افعلها!". وحيث أنه لم يقم فعلًا بالانتحار حتى الآن، لم يكن مسموحًا لنا أن نوقِف البث، لأننا لو فعلنا، نحن الذين سنقع في المشكلة، ستكون مشكلة جودة علينا.. حينما بدأ بالصعود على الكرسي ولفّ الحبل حول رقبته، هُنا توترنا بشدة أنه حقًا سيفعلها، ثمّ قَتَل نفسه، دفع الكرسي ووَقع، كان يُصارع من أجل حياته، لكن رقبته كانت قد كُسرت بالفعل» . . .
هناك أكثر من فكرة تأتي على ذهني عندما أفكّر في أهمية مُشاهدة الفيلم التسجيلي (الـ Documentary)، واحدة من هذه الأفكار هي أننا نعلم قصصًا جديدة، عصرية، ومهمة عن عالمنا الذي نعيش في رحبه اليوم، قصص ربما لم يكن لدينا خلفيةً عنها، أو مجرد علمنا أشياءً طفيفة.. الممتع أيضًا في الأمر أن بعض هذه القصص تتناول أشياء قد تكون بسيطة للغاية نقوم بِها بشكلٍ يومي في حيواتنا، لكننا لم نُمهل أنفسنا لحظةً لنتسائل عن شكل المصنع الذي أخرج علبة الحليب البسيطة الموجودة في بيوتنا.. هذا ما يتمحور عليه الفيلم التسجيلي (The Cleaners) الذي يُعدّ واحد من أهم أفلام برنامج بانوراما الفيلم الأوروبي هذا العام.
قصة "المنظفون" تدور حول عملية القبول أو الرفض للصور والفيديوهات التي تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي؛ كفيسبوك وتويتر واليوتيوب. وهو فيلم يتناول الموضوع من زاوية جذابة جدًا، فهو لا يحكي فقط (عملية) الحظر هذه بسرد وقائع وعرض مقاطع أرشيفية، وإنما يركز أكثر على الأشخاص ذاتهم الذين يقومون بهذه العملية، فلو فكّرت قليلًا ستجد أن الموضوع كلّه يقوم على هؤلاء الناس. فلنسأل الأسئلة إذن؛ ما الآلية التي يعملون بها؟، كيف يحددون أن هذا المنشور أو هذه الصورة مقبولة أم غير مقبولة ليراها العالَم أجمع؟ ماذا يحصُل في الحالات التي تظهر فيها معضلات أخلاقية أو شيء سيدفعهم -لا إراديًا- بالتصرُّف حسب (خلفية ما) هُم قادمون مِنها؟ ما هو "معيار الجودة" لهم؟ والأهم؛ ما هو شكل هؤلاء الناس أصلًا؟
.. .. .. ..
منذ أربع سنين من الآن ظهر فيلم تسجيلي بعنوان (Citizenfour) خطف حينها جائزة الأوسكار لأفضل فيلم تسجيلي في العام، كان هذا الفيلم يحكي قصة عميل لدى وكالة المخابرات الأمريكية يدعى "إدوارد سنودِن"، قام بتسريب تفاصيل برنامج تجسس تقوم به الولايات المتحدة على من يملكون حواسيب وهواتف ذكية لأغراض سياسية. حدث هذا الأمر في يونيو من عام ۲۰۱۳، وحينها انقلب العالَم رأسًا على عقب، لكن "سنودن" كان راسم خطة محكمة بالسفر إلى هونج كونج ليقوم بعملياته، ومن ثمّ إلى "روسيا" حيث وجد المكان الآمن الذي سيدعمه. هذا الفيلم أعتبره بمثابة فتحًا جديدًا على عالمنا الإلكتروني الحالي؛ حيث قام بعرض أفكارًا كثيرة لطُرُق التجسس وكيف يمكن (ضمن منظومة تخطيطية/استراتيجية محددة) انتهاك قانون بدون انتهاكه حقًا. المهم، ما خرجتُ به من تجربة مُشاهدة هذا الفيلم كان شيئًا واحدًا؛ نحن لا نعلم شيئًا عن الإنترنت، في حين أننا نظن أننا نعلم كل شيء.
"ذا كلينرز" يقوم بنفس الشيء لكن بشكل أقل بكثير من ناحية جرعة الإثارة والتشويق الموجودة في (Citizenfour)، حيث في الأخير كنا -حرفيًا- نركض وراء الموضوع بالكاميرا، ولا نعلم كيف ستنتهي قصة الفيلم/حياة سنودن في هذه الفترة من حياته، وماذا سيحلّ به.
وفيلمُنا هذا ومَع كمّ المعلومات التي يقدمها للمُشاهد، فهو يعرض هؤلاء الـ"كلينرز" في بقعة مكانية واحدة فقط بالعالَم، هي الفلبين. لكن ومع ذلك، فهو يستعرض الموضوع بشكل قوي أكثر من رائع، جاعلًا من السهل فهم الأمر على الصعيد العالمي بعد تقديم "نظرة عن كثب" لمكان واحد، ليكون بمثابة شكل مصغر لما يحدث في أي منظمة مُشابهة في المعمورة.
المميز في الفيلم أنّه يطرح موضوعًا واحدًا ومحددًا، ورغم ذلك فهو يناقش العديد من الأفكار والأبعاد المهمة الأخرى التي يُمكن أن يُصنَع عن مواضيعها أفلامًا مستقلة. مثلًا، الفيلم يوضح لك من خلال تركيزه على فكرة الـ ban أو الحظر، كيف أن الإنترنت في وقتنا الحالي أصبح بمثابة مكبّ قاذورات على البني آدمين، يمكنهم لفظ أي شيء يدور في عالمهم به، دون أن يكون هذا الشيء بالضرورة، يستحق أن يصل للناس أو أن يكون لصاحبه رغبة تعبيرية حقيقة عن مشكلةً ما.. الإنترنت أصبح كالصديق الحميمي لكلًا منّا، وبذلك خوفنا ورهبتنا قلّ كثيرًا عما كان عليه في السابق.
أيضًا الموضوع في طيّاته يأتي عليه الوقت الذي يُلامس أهمية فكرة التدابير التي تأخذها الدول تجاه "الإنترنت" كشيء أصبح في نفس أهمية الإحتياطات الأمنية السياسية، أو توفير السلع الغذائية، أو المصحات والمستشفيات.. لم يعد الإنترنت مجرد متعة ورفاهية كما كان قبلًا، بل يُمكن أن يكون السبب في قيام مصائب وحروب كاملة.. وتبعًا لذلك، يجب أن يلقى ذات الاهتمام من حكومات الدول.
.. .. .. ..
في أحد حوارات الفيلم تقول سيّدة تشغل منصب هام في موقع "جوجَل"؛ أحيانًا يكون تعريفنا للشيء الذي يقوم الشخص بوضعه على الإنترنت صعبًا، فهل هو مادة ساخرة؟، هل هو نقد لموضوع اجتماعي أو سياسي ما؟، أم هو يُصنّف كـ"خبر"؟.. في هذا الوقت بالذات يكون الموضوع أصعب ما يكون علينا.
وفي حوار آخر لأحد المقررين المتخصصين في حرية التعبير أو الـ freedom of expression يرى أن الموضوع سلبي ويُحجّم من حرية التعبير والصحافة في عصر أصبحت الصحافة تلعب فيه دور جذري في الحياة، يقول أننا لا يجب أن نتفاجئ في المستقبل إن بحثنا على الإنترنت ووجدنا معلومات أقل مُتاحة، بحديّة وعصبية أقل، وبإثارة أقل.. وحينها -كما قال- سنكون "مجتمع فقير".
أعتقد أن مهمّة الفيلم -إن كان ما هُناك ما يسمى بذلك- هي أن تدفع هذه الحكايات وهذا الموضوع المُشاهِد، أن يُفكّر كل مرّة يقوم فيها بنشر صورة أو محتوىً ما جديد على حسابه الإلكتروني. إن حصُل هذا، وإنّ دفعَك فعلًا أن تتعلم شيئًا جديدًا عن عمليات الحظر الإلكترونية، وجعلك تستخدم الإنترنت بشكلٍ أفضل، أظن حينها الفيلم يكون قد نَجَح نجاحًا تامًا.