خارج قاعة عرض مهرجان روتردام السينمائي الدولي (23 يناير – 3 فبراير)، وبعد مشاهدة فيلم "ملكة القلوب Queen of Hearts" للمخرجة الدنماركية ذات الأصول المصرية ميّ الطوخي تجاذبت أطراف الحديث مع مبرمج إيطالي مرموق علق على الفيلم واصفًا مشاهدته بالفرصة الطيبة لأنه "رغم بعض المشكلات يظل فيلمًا صعب التحقيق حاليًا، ربما الدنمارك إحدي الدول القليلة التي يمكنها تمويل فيلم كهذا في عصرنا الحالي".
الوصف دقيق ومؤلم، والأكثر إيلامًا إنه لا ينطلق من كونه مثلًا فيلمًا ضخم الإنتاج يحتاج ميزانية تعجيزية، فالحقيقة أن ستوديوهات هوليوود لم تعتد تهتم إلا بهذه الأفلام المليارية، ولكن السبب هو محتوى الفيلم الذي يمكن أن تعتبره معظم الجهات المنتجة عالميًا موضوع خطير لا يجب تقديمه، لأنه يتعرض لعالم الناشطين في مجال الانتهاكات الجنسية، وكيف من الممكن أن تكون ممارسات الشخص في حياته الخاصة مناقضة لما يدعو إليه في مجال عمله.
حياة هادئة وعلاقة جنسية
الحكاية عن محامية في منتصف الأربعينيات، تعيش حياة هادئة ناجحة مع زوجها وابنتيها التوأم، وتتخصص في الدفاع عن ضحايا الاعتداءات الجنسية، تدربهم على مواجهة المعتدين والقضاة، وتبدو مؤمنة بقضيتها لدرجة غضبها عندما تفشل إحدى الموكلات في إقناع القضاة بأنها لم ترد ممارسة الجنس مع المعتدي عليها، فتشتبك مع المعتدي في جراج السيارات بالمحكمة مما يستدعي لوم مديرها لها.
الأمور تسير بهدوء حتى تنقلب حياة آن (تجسدها النجمة الدنماركية ترين ديرولم بإتقان وإمساك مدهش بتناقضات الشخصية) عندما يصل لمنزلها جوستاف ابن زوجها من زواجه الأول: مراهق متقلب المزاج لديه تاريخ من المخالفات استدعت انتقاله ليعيش في بيئة مختلفة، لا يبدو قادرًا أو حتى راغبًا في التفاعل معها رغم محاولات الأب وزوجته وحماس الطفلتين لوجود أخيهما للمرة الأولى.
الصدام بين آن والشاب الذي جاء ليقلب حال بيتها الآمن يتطور بصورة أجادت المخرجة ـ التي كتبت السيناريو بمشاركة مارين لويز كاين ـ رسمها ببراعة، ليصير من المنطقي أن تنشأ علاقة جنسية بين المرأة الناضجة والأم الناجحة، وبين مراهق لم يبلغ بعد السن القانوني الذي يمكنه عنده دخول علاقة بلا مشكلات قانونية (ناهيك عن كونه ابن زوجها بالطبع). ميّ الطوخي تتقن التعبير من الدقائق الأولى عن معاناة بطلتها من أزمة منتصف عمر واضحة. وإذا كان من المعتاد في الأفلام مشاهدة الرجال يتعرضون لمثل هذه الأزمة فإن الفيلم يتحمل مسؤولية الإعلان عن أمر بديهي هو أن المرأة هي الأخرى يمكن أن تعاني من الأعراض نفسها: حياة تبدو من الخارج مثالية مليئة بالسعادة، لكن رتابتها مع مرور الأيام وتقدم أصحابها في العمر الذي تبدأ آثاره في الظهور على أجسادهم (جسد آن يكاد يكون الموتيفة الأهم في دراما الفيلم)، يدفعهم دفعًا نحو خوض مغامرات جنونية لا تتعارض فقط مع ما كرسوا عمرهم من أجله، بل تهدد حياتهم وأمنهم بالدمار الكامل.
نقطة المواجهة ومسائلة العالم
علاقة كهذه من المستحيل أن تنتهي دون مشكلات أو أن تظل طيّ الكتمان، وكما هو متوقع لا بد وأن تندلع بسببها شرارة حريق يهدد حياة الأسرة بالكامل، لكن ما تنجح المخرجة فيه هو ألا تسير الأمور في أي مسار متوقع، وألا تنجرف نحو الميلودراما التي تحمل الحكاية كل أسبابها، بل على النقيض يختار "ملكة القلوب" التركيز على مأزق هذه المرأة القوية، سيدة الشركات الكبرى القادرة على إخفاء مشاعرها والتلاعب بالحقائق يوميًا، ليكون السؤال المطروح داخلها: إذا ما تصاعدت المواجهة ما الذي يجب فعله؟ الانتصار للمبادئ ولو أدت لدمرها حياتها المهنية والأسرية، أم السعي للنجاة ولو اقترن بتحوّلها ـ على الأقل داخليًا ـ وحشًا بلا رحمة؟
قيمة الفيلم تنبع في إخلاصه للحقيقة، لطابع النفس البشرية بتعقدها الروائي وسعيها الفطري نحو النجاة بغض النظر عن الحسابات، ولهذا السبب كان وصف المبرمج الإيطالي دقيقًا بصعوبة تمويل فيلم كهذا في عصر الصوابية السياسية و"مي تو"، ليس لأنه يتناول نزوة جنسية بين امرأة بالغة ومراهق قاصر، لكن لأنه يقول أن هذا الفعل ـ على دنائته ـ هو فعل إنساني ناتج عن احتياج نفسي قد يخوضه إنسان طبيعي لم يتوقع يومًا أن يصير في موقع الاعتداء الجنسي.
ما يزيد الأمر صعوبة اختيار المخرجة لطبيعة الشخصية الرئيسية في فيلمها، فالأمر سيكون يسيرًا، بل وبديهيًا ينال دعم جميع الجهات، لو كان الطرف البالغ هو الرجل، لكن أن تكون المعتدية هي المرأة، وليست أي مرأة بل هي ناشطة كرست حياتها لمواجهة القضية عينها، فهو الحجر الذي اختارت المخرجة أن تلقيه بجرأة تُحسد عليها في بئر النظم الأخلاقية الحاكمة للعالم حاليًا، لا سيما لعالم السينما في عام إصدار مهرجان برلين لمذكرة تفصيلية تُثبت رغبة المهرجان في عرض أكبر عدد ممكن من أفلام المخرجات في كافة برامجه، دون إشارة لمعيار الجودة الفنية الذي يُفترض أن يكون هدف أي مهرجان سينمائي كبير.
"ملكة القلوب" لميّ الطوخي فيلم غير متوقع، يُعد ظهور عمل مثله في وقتنا الحالي حدثًا يستحق الإشارة، خاصة عندما تكون مخرجته امرأة من أصول عربية حتى لو كانت دنماركية النشأة والجنسية. فيلم شجاع يُذكر لمهرجان روتردام اختياره لمسابقة مهمة مثل مسابقة الشاشة الكبيرة Big Screen Award، ويُذكر لمخرجته قبل جرأتها، هو قدرتها على صياغة هذه الجرأة في عمل متقن الصنع، ودراما ثرية مشوّقة، وذلك هو الأهم قبل كل المعايير المتعلقة بالموضوع والقضية.