من المنطقي أن يسعد المخرجون عندما تنال أفلامهم جوائز اختيار الجمهور في المهرجانات، فهي الجوائز التي تمنح الفيلم شهادة علنية بأنه ليس فقط عملًا جيدًا على مستوى اختيارات المبرمجين، بل ويمكنه التواصل مع الجمهور العريض ونيل إعجابه. السعادة تسري على كل المهرجانات التي تمنح جائزة جمهور، فما بالك عندما يكون هذا المهرجان هو برليناله؟ الذي يجمع بين كونه واحدًا من مهرجانات العالم الثلاثة الكبرى، وبين امتلاكه لأكبر جمهور في عالم المهرجانات، حيث يبيع المهرجان سنويًا ما يزيد عن 300 ألف تذكرة لسكان العاصمة الألمانية. يكفي هذا لتوضيح قيمة جائزة اختيار الجمهور في مهرجان برلين والتي تُمنح لفيلمين من قسم البانوراما، والتي كانت من نصيب القارتين الآسيوية والأفريقية هذا العام خلال دورة المهرجان التاسعة والستين، فنال الفيلم الياباني "37 ثانية" للمخرجة هيكاري جائزة الجمهور للأفلام الروائية، بينما حصد الفيلم السوداني "الحديث عن الأشجار" للمخرج صهيب قسم الباري جائزة الأفلام الوثائقية، قبل ساعات من تتويجه بجائزة أحسن فيلم وثائقي في المهرجان بأكمله، لتُجمع عليه اختيارات التحكيم والجمهور.
37 ثانية خارج التوقعات
يشير عنوان الفيلم الطويل الأول للمخرجة اليابانية هيكاري (اسمها الحقيقي ميتسويو ميازاكي) للزمن الذي تأخر فيه إخراج بطلة الفيلم يوما من بطن والدتها، بما تسبب في إصابتها بشلل دماغي جعلها عاجزة عن الحركة والتحدث بشكل طبيعي، بينما في الوقت نفسه تحتفظ بالإحساس في جسدها وتعمل يديها بشكل طبيعي، بل وبمهارة وموهبة في رسم المجلات المصورة اليابانية (مانجا).
يوما في الثالثة والعشرين من عمرها، تعيش مع والدتها وتعتمد عليها كما لو كانت طفلة، وتعمل في السر لدى رسامة مانجا تستغل رسومها في تحقيق شهرة ونجاح دون أي إشارة لوجود من يساعدها، بل أن انتحال هذه الفنانة لأسلوب الفتاة جعل الخبراء يتعاملون مع يوما، وهي صاحبة الموهبة الحقيقية، باعتبارها تحاول تقليد صديقتها المنتحلة. الأمر الذي يدفعها لمحاولة تلمس طريقها في أبعد مجال يمكن توجه فتاة مثلها إليها: الرسوم الإباحية.
الفتاة التي عاشت حياتها تحت الحماية والسيطرة تتلقى طلبًا صريحًا: "عليكي أن تمارسي الجنس.. أنت موهوبة لكن الخيال لا يكفي". ليكون هذا الطلب هو الدفعة التي كانت يوما تحتاجها لتبدأ اكتشاف قدراتها التي ظلت حبيسة كرسيها المتحرك، وتعرف إنها وإن كانت حالتها قد جعلتها تحتاج لبعض العون ممن حولها، فإنهم في حاجة أكبر إليها لكنهم لا يدركون.
إنجاز هيكاري في "37 ثانية" هو عدم انجرافها نحو العاطفية المفرطة مع شخصية تستحق كل التعاطف. المخرجة ترفض أن تقع في خطأ الأم وتمارس وصاية سردية على بطلتها، تتركها على سجيتها، تكتشف العالم، تجرب وتغامر، تدخل عالم الكبار بقلب طفل وابتسامة ملاك. نبرة متزنة تحافظ عليها صانعة الفيلم، فلا يأخذها تيار العاطفة فتميع موضوعها، ولا تتعامل معه بجدية مفرطة تحوله عملًا آخر من أفلام المهرجانات، تمنح الجمهور القدر الكافي من المشاعر، معتمدة في ذلك على أداء بالغ الرقة والتأثير من ممثلتها الرئيسية ماي كاياما.
صحيح أن الفيلم ينحرف قليلًا في فصله الأخير نحو فصل خفي تكتشفه يوما عن تاريخ أسرتها، بما يخرج الحكاية من مسارها الذي أمسكت به طيلة زمن الفيلم، إلا أن هيكاري تعود وتنهي فيلمها بإجادة جعلت من الطبيعي أن يقع جمهور برلين في حب الفيلم ويختاره لينال الجائزة بين قرابة الخمسين فيلمًا تنافست في قسم البانوراما.
الحديث عن الأشجار.. وعن السينما والوطن والحرية
الحدث الأبرز للسينما العربية في برليناله كان "الحديث عن الأشجار" للسودان صهيب قسم الباري، ليس فقط لجمعه بين جائزتي الجمهور والفيلم الوثائقي في إنجاز نادر، ولكن بالأساس لما حمله الفيلم من مفاجأة سارة علي صعيدي الموضوع والشكل، شخصيات الفيلم الأربعة بفرادتهم وطرافتهم وخصوصية ما يجمعهم وقضيتهم من جهة، وطريقة صياغة المخرج لعمله سرديًا من جهة أخرى.
الأبطال الأربعة هم من يمكن أن نسميهم مؤسسي السينما السودانية: الطيب المهدي، منار الحلو، سليمان محمد ابراهيم، وابراهيم شداد الذي يُمكن اعتباره كنزًا إنسانيًا قدمه الفيلم لنا، بخفة ظله وثقافته الواسعة وطاقته الدافعة لأصدقائه الذين كان كل منهم مخرجًا واعدًا يُنتظر منه مستقبلًا كبيرًا بعد عودته من دراسة السينما (جميعهم درسوها إما في موسكو أو القاهرة)، قبل أن يؤدي انقلاب البشير وما ترتب عليه من حكم إسلامي في إيقاف كل المخططات ووأد أحلام جميع السينمائيين السودانيين.يُقرر المخرجون الأربعة، من خلال مؤسستهم "جمعية الفيلم السوداني" إعادة السينما كنشاط جمعي إلى مجتمعهم، عبر استئجار قاعة سينما من عديد القاعات المغلقة في العاصمة، وإعادة تجهيزها لتصير ناديًا سينمائيًا يعرض الأفلام للأهالي. يختارون القاعة بأنفسهم بناء على ما تسمح به الظروف وورثة القاعات (الذين يفضل معظمهم تركها مغلقة على أن يغامر بإعادة فتحها!)، ينظفونها ويعيدون طلائها بأيديهم (متعاملين من ركام شرائط السيلولويد، آخر ما يُثبت أن عروض سينمائية مرت من هنا)، وينزلون إلى الأحياء المجاورة يتحدثون مع الأهالي ويسمعون منهم كلمات الحماس لوجود قاعة عرض قريبة وأنواع الأفلام التي يجب أن تعرضها.
لا يمكن أن تتابع رحلة الأبطال الأربعة دون أن تقع في حبهم، وفي حب الشعب السوداني بشكل عام، فالفيلم يُظهر قدر الطيبة والنوايا الحسنة والتعطش للثقافة التي لا يفوقها لدى السودانيين سوى رغبة الدولة في إبقاء الأمور في وضع اللافعل. لماذا تريدون أن تعرضوا أفلام؟ ما هي طبيعة هذه الأفلام؟ لماذا لا تكتفون بما يشاهده الناس على شاشات التلفزيون؟ أسئلة بدائية تبدو سخيفة، لكن على كل من يريد العمل في السينما أن يتعامل معها بجدية ويجيب عليها، ناهيك عن مشكلات العرض في قاعات مكشوفة تحيط بها المآذن تتبارى في الصوت المرتفع، وهو تحدٍ يتعامل معه الأبطال أربعة بشكل ساخر لكنه يحمل في جوهره نقدًا واضحًا للسياسات الحاكمة للسودان والتي أدت به لوضعه الراهن.
"في السينما لا يموت البطل بشكل طبيعي، لا بد أن يقتله خائن جبان" يقولها أحد الأبطال الأربعة واصفًا ما تعرضت له السينما السودانية التي تكاد تكون توقفت لأكثر من ربع قرن، قبل أن تستعيد الحراك مؤخرًا بفيلم صهيب قسم الباري ومعه "أوفسايد الخرطوم" لمروة زين الذي عُرض في قسم الفورم، و"ستموت في العشرين" لأمجد أبو العلاء الذي انتهى تصويره ومن المنتظر عرضه قريبًا، حراك يقول أن النار تحت الرماد، وأن المواهب الشابة السودانية لم يعد من الممكن أن تصمت مجددًا على الكبت والتهميش، وأن إنجاز "الحديث عن الأشجار" الكبير في برليناله لن يكون آخر ما نسمعه عن السينما السودانية في الفترة المقبلة.