انتهت حلقات مسلسل "أهو ده اللى صار" للمؤلف عبدالرحيم كمال والمخرج حاتم علي، ولكن ظلت أحداثه وشخصياته تعيش معنا وبيننا كأنهم أناس من لحم ودم، وليسوا مجرد شخوص نسجها خيال كاتب، ترك خلفه مجموعة من الاسئلة لم تغادرنا، أهمها: كيف يمكن لجيل الأحفاد أن ينسف جمال الماضي ويحاول أن يفسد ما تبقى منه؟ ما الذي يمكن أن يدفع حفيد الخواجة جوني منصور (هاني سمير سيف) العاشق للإسكندرية وناسها وشعبها، أن يتحول إلى مشروع إرهابي ممسوح العقل مسلوب الإرادة بهذا الشكل؟ مع أن جده "الخواجة" الإنجليزي عاش في الاسكندرية في سنوات الحرب العالمية الثانية، وقرر أن يستقربها، ولم يعبء بحالة الكراهية التي يكنها الشعب المصرى للغزاة المستعمرين، بل إنه لم يفكر حتى في احتمال أن يكون هدفًا سهلًا لبعض من يريد اصطياده من القوى الوطنية، جوني منصور قرر أن يقضى عمره في مصر ويمتزج بشعبها، ويتحدث بعاميتها مثل ولاد البلد! فكيف يمتد نسله لينتهي إلى فتى مزعزع الإيمان مسلوب الإرادة مرتبك المشاعر ويقبل أن يقوم بمهمة تدمير قصر نوار باشا؟ ماذا فعلت السنين في جيل كامل كان أجداده يعشقون البحر والحب والفن ويتعايشون في تناغم رغم كل الاختلافات؟
اسكندرية المدينة الكوزموبوليتانية التي أفسحت قلبها وشواطئها ونسيمها لكل الأجناس والأديان، كيف انتهى بها الأمر لتصبح معقلًا للسلفية والطامعين وحاملي الأحقاد الطبقية؟ مائة عام بدأت منذ 1918 وانتهت 2018، شهدت انهيار منظم لكل ما هو جميل وراقٍ، ورغم أن الحكاية بدأت من اسكندرية في زمن الإحتلال الإنجليزي لمصر، ولكن كانت الحياة وقتها أكثر رقيًا وتفتحًا على العالم، مع وجود الفوارق الطبقية والاجتماعية والعقائدية، تابع مثلًا حال الشيخ "زهار"، الرجل المتزمت وصديق شلة الفرفشة المكونة من علي بحر (محمد فراج)، وديع البساطي (علي الطيب) وأصداف (أروى جودة)، لقد كان مع اختلافه وسخريته من سلوك رفاقه ووصفه الدائم للبساطي بأنه آلاتي "فلاتي" ومع ذلك كان ملازمًا لهم يشاركهم الضحكات والحكايات يرفض أو يقبل سلوك أحدهم ولكنه لم يغادرهم، أو ينعزل عنهم، ولكن تبدل حاله من رحابة الصدر وقبول الآخر، إلى حالة من الكراهية والغل وعنف الرفض مع بداية السبعينات، وتفاقم الأمر مع مر السنوات.
أما قصة الحب المزمنة بين علي بحر (محمد فراج) ومعشوقته الملهمة نادرة أو روبي، فقد كانت علاقة كاشفة لطبيعته، المحبة للجمال والفن بكل أشكاله وصوره، لقد أبدع عبدالرحيم كمال في رسم الشخصية كما أبدع وبرع محمد فراج في تجسيدها، حتى يمكن أن نعتبرها أهم شخصية درامية ظهرت خلال الخمس سنوات الأخيرة، على بحر عشق اسكندرية وبحرها وناسها على اختلافهم، يكاد لا يعرف قلبه الكراهية ولا الحقد لدرجة أنه أحب خصمه في حب نادرة، فلم يكره يومًا يوسف نوار (أحمد داود) ،بل صداقة في فترة من حياته، ولم يكره البساطي رغم أن الاخير وشى به، وعرضه لخسارة فنية ومادية لم يستطع أن يتجاوزها، ولم يكره الخواجة جوني منصور رغم كراهيته للإنجليز فقط نهى أصداف عن معاشرته لأنه مستعمر! قلب علي بحر إتسع لكل أنواع الحب تعذب بعشقه للفن الذي لم يمنحه إلا قليل من الشهرة والمال الذي يكفي تدبير قوت يومه، ولكنه لم ينقم على من حقق الشهرة والمال بوسائل رخيصة.
وكان عبدالرحيم كمال من الحكمة والحصافة بحيث لم يضع نهاية لشخصية علي بحر وأصداف كما لم يفعل مع الخواجة عبدالقادر وزينب في المسلسل الشهير، وكأن العشاق يتحولون إلى كائنات نورانية تسبح في الملكوت للأبد. ......................
في قصر نوار باشا الذي يقع على شط بحر إسكندرية في العشرينات من القرن العشرين وحتى الزمن الحالي، دارت معظم الأحداث التي بدأت برغبة خديجة هانم (سوسن بدر) أن تملأ قصرها بأحفاد يرثونه بكل ما يضمه من مقتنيات ثمينة وفاخرة، وانتظرت بشغف عظيم عودة ابنها الوحيد يوسف نوار (أحمد داوود) من إنجلترا حيث ذهب لدراسة الطب، ولكنه عاد قبل أن يكمل دراسته، وسرعان ما تعلق قلبه بفتاة القصر نادرة (روبى) ابنة الخادم الصعيدي زكريا (محمود البزاوي) وكانت خديجة هانم قد قامت برعايتها وتعليمها القراءة والكتابة وعزف البيانو، ولكنها عارضت بشدة فكرة تعلق ابنها الوحيد بابنة خادمها، وحالت دون زواجه منها، فقد أرادت أحفادًا من سلالة عريقة وخذلها القدر، فلم ينجب ابنها من زوجاته الثلاث، ولم ينجب أيضًا من نادرة التي تزوجها بعد مرضه وانهياره صحيًا، إذا اعتبرنا أن القصر يمثل زمن العراقة والأصالة والرقي، فقد انتهى بعد عشرات عشرات السنين إلى مبنى مهجور خال من البشر يعيش فيه من لا ينتمى له، ويتصارع على اقتنائه أحفاد من عاشوا يحلمون بمجرد المرور حول أسواره! هذا ما آل إليه حال القصر وسكانه وأهل الإسكندرية الذين قدم لنا المسلسل بعضًا منهم، ولم يبق من نسلهم إلا الحاقد والفاسد والمتعصب والإرهابي الذي يسعى لتدمير كل شيء.
لو سألت نفسك لماذا وصلنا إلى هذا الحال، سوف تجيبك أحداث المسلسل "أهو ده اللى صار"!
لاشك أن المخرج حاتم علي اختار أبطال المسلسل بعناية فائقة سواء من قدموا الشخصيات الأساسية أو الفرعية، وكان أكثرهم براعة محمد فراج في شخصية علي بحر، وأروى جودة في شخصية أصداف، فلم يكن يخطر ببال مخلوق أنها يمكن أن تبرع إلى هذا الحد في تقديمها، وعلي الطيب في شخصية البساطي الذي يحمل كثير من المتناقضات، فمع عشقه المخيف للمال، إلا أنه يحب الطفل سمير ابن زوجته أصداف، ويقبل أن يمنحه اسمه ويضمن له وضعًا إجتماعيًا لائقًا، هاني سمير سيف في دور الخواجة جوني منصور عاشق الإسكندرية وناسها وهو ما يجعله يقرر أن يكتب تاريخ البشر الذين تعرف عليهم بدون أي تجميل أو تزييف.
أحمد داوود في دوري يوسف نوار ابن خديجة هانم، ويوسف ابن نادرة وهلاوي قدرة على التعامل مع كل شخصية مع اختلافاتها النفسية والسلوكية، ويضع المسلسل روبي في المكانة التي تستحقها من زمن، وتنجح في تقديم شخصية الفتاة الصعيدية العاشقة نادرة التي تحرمها الظروف من حبيبها وترميها التقاليد في أحضان زوج غليظ المشاعر جاف العاطفة، جاهل يتعامل مع زوجته كبهيمة تلبي رغباته فقط، كما قدمت في نفس الوقت شخصية الصحافية العصرية سلمى، التي تعلقت بالقصر وحكاياته وكانت مدخلًا لمعرفة تاريخه، فعلت ذلك بأسلوب بسيط ومرح أحيانًا ومتأمل ومتشكك في أحيان أخرى، هشام اسماعيل في دور الشيخ زهار سوف يتذكره الجمهور طويلًا.
ومن أهم شخصيات المسلسل خديجة هانم بأداء مبهر لسوسن بدر، علي شوقي صوت وأداء مميز ينتظر منه الكثير، من أهم عناصر التميز في نص عبدالرحيم كمال الحوار على لسان علي بحر، والبساطي، والشيخ زهار، والخواجة جوني منصور وأصداف، فقد أصبح هذا الحوار من الأقوال المأثورة التي لن تسقط من ذاكرة المشاهد، ومع جودة النص وتميزه، لكن هناك مناطق وشخصيات سقطت من الحدث مثل بنات نادرة اللاتي لم نعرف ماذا حدث لهما بعد أن انتقلت أمهما للحياة في القصر وزواجها من يوسف نوار، فلا يعقل أن يمتد عمر الأم لما فوق السبعين دون أن تذكر أي من ابنتيها، ولو في حوار عابر، كما لم يوضح السيناريو صلة القرابة بين يوسف ابن الهلاوي وكمال الذي ذكر أنه شقيقه من ناحية الأم، تلك العلاقة الملتبسة لم يفك المسلسل طلاسمها.
موسيقى أمين بوحافة ليست عملًا فنيًا فقط، ولكنها أحد أهم عناصر الجمال في المسلسل، ومكملًا للحالة الإبداعية التي قدمها "أهو ده اللى صار" على إمتداد ثلاثين حلقة، وسوف يتم توثيق المسلسل بإعتباره ثاني أهم ما قدمه المخرج حاتم علي للمسلسلات المصرية بعد الملك فاروق.