هل هذا شعوري فقط، أم أن الأمر يزداد جنونًا في الخارج؟
جملة افتتاحية بدأ بها بطل هذه العمل الأسطوري المتقن خواكين فينكيس ليمهد لنا كل ما سوف نراه لاحقًا في تحفته الفنية هذا العالم "الجوكر".
كنا قبل هذا الفيلم عندما نسمع اسم الجوكر، نتذكر فقط الراحل هيث ليدجر، لكن الآن لدينا نسختين مختلفتين تمامًا في كل شئ، يجمعهم فقط اسم الشخصية وعبقرية الأداء بل هم مكملين لحقيقة شخصيه الجوكر غريبة الأطوار المبهمة لنا جميعًا.
الجوكر هنا مختلف بفضل فينيكس الذي جعل الفيلم مسرحًا يعرض عليه قدراته الجبارة، هذا لم يكن تمثيلًا، لم يتقن الشخصية فحسب، بل جعلها أيقونية ومتفردة، صوت ضحكته لن يُمحي من ذاكرتك، رقصته ستظل تتذكرها، نظرته الدامعة ستفطر قلبك، شيء يتسلل إلى روحك ولا يتركك، يبكي وهو يضحك، يخنق نفسه من أجل التوقف عن الضحك.
الفيلم دَرس شخصية "الجوكر" بدون الحاجة لِلإستعانة بِالكوميكس الخاصة لِدي سي، الفيلم ستخرُج مِنه وأنت مُشوش ومُضطرب ومُمكن أن تجادل فيه لِسنين نظرا لتقديمه لشخصية "الجوكر" بطريقة مُذهلة وغير متوقعة فبالرغم من كونه مريض عقلي لكنه لم يكن الطرف المجنون في هذا المجتمع، كان الجميع يزداد جنونًا، كانوا يتوحشون بالخارج بينما هو فقط يريد رسم ضحكة على وجوههم.
لكن هذا العالم لم يكن بحاجة للضحك والدعابات، هذا العالم احتاج لصفعة تفيقه من جنونه، صفعة قوية تهز وجدان الجميع، فيجعلنا نصل الي حقيقة الجوكر" فهو نِتاج مُجتمع مُتوحش يفتقر للتعاطف، فالفيلم هو بِمثابة أصبع الإتهام إلى مجتمع مُستخف بِمواطنيه.
فهذا كثرة المال قد أعمت عيناه، وهذا امتلك سُلطة لا يستحقها جعلته متحكمًا في مصير بشر لا يعرف عن مشاكلهم شيئًا، وهؤلاء المتغطرسون يتمتعون بإيذاء الغير، القمامة تغطي الشوارع والبيوت، فهذا المجتمع يتحول تدريجيًا إلى مدينة موتى أحياء قد يأكلون بعضهم بعضًا في يومٍ من الأيام.
كل هذا الجنون كان يصب في دماغ بطلنا، الذي كان أكثر المتأثرين به، كان ضحية مجتمع قد توحش، فلم يكن امامه إلا أن ينفجر في وجهه، أن يثور عليه، لكن ثورة على طريقة الجوكر.
نجح المخرج المخضرم تود فيليبس في اظهار هذا الجنون والأسي الذي يحيط ببطلنا، بزوايا التصوير اللافتة التي يختارها، والطريقة التي يحدد بها كيف يدخل أو يخرج بطله من الكادر بالاضافة إلى عظمة الموسيقي التصويرية وترابطها مع الأحداث والمشاهد ومدى جماليتها والتي تدعك تعيش داخل المشاهدو تقتحم قَلبك وستدعك تعيش الأحداث معها وخصوصًا موسيقى الطبول في الخلفية مع أي مشهد صادم.وقد استمد "تود فيليبس" روح الفيلم من عِدة أفلام مشهورة كَ "تاكسي درايفر" و"ذا كينج أوف كوميدي" وهو يُقدم مدينة "جوثام" في عام ١٩٨١ المدينة الفوضوية مدينة الفساد والأمراض مدينة اليأس القاتِم وإنعدام القانون مدينة العُنف والسرِقة مدينة الخوف! كُل هذا الوصف أعطى فيلم "الجوكر" واقعية مُفرطة ومكان مُناسِب لِتحول الشخصية فيه واستعان بالنجم الكبير روبرت دي نيرو بطل الفيلمين السابقين وهو اختيار مميز و صحيح.
"سأواجه الجنون بالجنون، بل بجنون أشد منه، سأثور على الجميع، ثورة لن يفلت منها أحد، سأنظف الشوارع بدمائكم، وسأنشر ضحكتي المدوية بعد ذلك لتذكرني هذه المدينة للأبد، سأكون بطلها ومجرمها في نفس الوقت"
الفيلم يطلُب منا التعاطف مع "الجوكر" ولكن ليسَ المُسامحة على قراراته التي تزدادَ شرًا وعُنفًا بِشكل مُتصاعد بل يجعلنا نبحث عن حل لكف التنمر والاستخفاف ببني البشر، كما يجعلنا نتسائل كيف سنشاهد باتمان بعد فيلم الجوكر على أنه النبيل سليل النبلاء وعائلته "عائلة وين" مدانة بما حدث؟
ولم يعد السؤال المهم الآن هو هل سيترشح فينيكس للأوسكار عن الجوكر أم لا؟ . بل السؤال الحقيقي هل يمكن أن يخطف مرشح آخر الأوسكار من قبضته هذا العام؟! وما هو المطلوب تقديمه لاستحقاق الجائزة بدلًا منه؟ فهو الافضل بدون منازع ومن قبل طرح أي أفلام جديدة هذا العام.
ففيلم الجوكر فيلم مُتكامل فنيًا وإخراجيًا وتصويريًا وموسيقيًا وتمثيليًا، كُل شيءٍ فيهِ مُتكامل، كما قدم خواكين فينكيس أداء مدهش يجعله المُستحق الأول للأوسكار ، وغالبًا سينافس الجوكر على غنائم أخرى مثل أفضل فيلم وافضل إخراج، بالإضافة إلى الفروع التقنية ومنها التصوير والتصميم والإنتاج .فلا شك بأننا نشهد تجربة سينمائية سوف يتحاكى عنها اجيال قادمة من عظمتها.