تلك الكلمات صرح بها الأديب العالمي ستيفن كينج حينما وصف روايته الشهيرة والتي تولى ستانلي كوبريك مهمة تحويلها لعمل سينمائي "The Shining" بسبب تجاهل السيناريو العديد من عناصر القصة الروائية والتغيير والتركيز فقط على شكل وصفات الشخصيات المدفوعة نحو الجنون بلا مبرر، ليظهر العمل على حد وصفه بصورة جميلة تفتقد للعمق وتعاني من ضعف الحبكة، نعم الفيلم السينمائي ذاته الذي يعتبره محبي السينما كواحد من أعظم أعمال الرعب في التاريخ، فيلم يمكنك مشاهدته والاستمتاع به ولكن حينما تأتي للمقارنة مع النص الأدبي ستتفاجئ كيف عبرت كلمات كينج عن الأمر برمته.
في عام 1993، بدأ الأديب أحمد خالد توفيق سلسلته الأسطورية والتي تناولت أساطير من الخيال والخيال العلمي أيضًا "ما وراء الطبيعة"، لتسطر السلسلة تاريخًا حافلًا في عالم روايات أدب الجيب، وهي عادة تأتي بمغامرات مركز وشيقة في عدد من الصفحات القصيرة، ومع صدور الأعداد المتلاحقة، وضعت السلسلة نفسها ضمن الأعمال التي ارتبط بها الشباب والنشئ منذ التسعينات وحتى نهايتها في 2014، عشنا معها واستمتعنا بها وتفاعلنا مع شخصياتها، وكان يشاركنا عمرو سلامة الأمر، ولكن لم يمر الأمر بالنسبة له مرور الكرام، فقد صارت السلسلة حلمًا له بترجمتها في عمل فني يخلدها ويخلد مجهود واحد من أعظم الكتاب العرب، ففي كل مناسبة خرج سلامة ليعلن رغبته الشديدة في إخراج السلسلة في مسلسل درامي وتأجل الحلم كثيرًا بسبب الظروف الإنتاجية، ثم جاءت منصة نتفليكس العالمية لتُحول الحلم إلى حقيقة.
في عام 2019، بدأت الشبكة بالتعاون مع سلامة في التحضير للعمل، مرورًا باختيارات الممثلين التي أصارت جدلًا كبيرًا في البداية، فبينما كان يحلم البعض بعبد العزيز مخيون في دور شخصية رفعت إسماعيل الشهيرة، كان للعامل السني كلمته ليأتي الاختيار على الكاتب والممثل الكوميدي أحمد أمين في تجربة على أمل إظهار جوانب تمثيلية جديدة في مسيرته وإثبات جدارته بتجسيد واحدة من أشهر شخصيات الأدب العربي، ومع مرور الوقت سريعًا ظهرت كواليس العمل بشكل مبشر والتي تحول فيها الشاب الذي تميز بقدرته على إضحاكنا بأقل الطرق إلى الرجل الأربعيني الأشبه بالقلم الرصاص لنحالته، حتى خرج لنا العمل بشكل رسمي في الخامس من نوفمبر هذا العام وذهب الجميع إلى المنصة العالمية وبدائلها الغير شرعية لرؤية حلم خالد توفيق على الشاشة.
ما بين المكتوب والمرئي، تكلم رفعت إسماعيل ولكن بلسان عمرو سلامة الذي اعتمد في حبكته على ربط الأساطير ببعضها البعض، فكانت لشخصية شيراز الفتاة الشهيرة التي تصدرت رواية "أسطورة البيت" بردائها الأبيض الحضور في كل حلقات العمل، وهنا كانت بداية التغيير المبرر والغير مبرر في بعض الأحيان، فمع بداية العمل نشاهد شخصية رفعت وهي تخوض في عوالما ما بين الحاضر الخالي من الجرأة والشجاعة الكافية ليبوح بما يشعر به، يرى حبيبته أمامه ولا يستطيع أن يكون معها، لا يصدق أبدًا بوجود ما يسمى بما وراء الطبيعة على الرغم من أن عالمه لا يخلو منه، والماضي الذي يعود دائمًا ليطارده، الحب الأول وحب عالمه الأبدي الذي وإن احترقت نجومه فلن ينطفئ أبدًا، ومع مرور الوقت صارت الأحداث من المنحنى التصاعدي إلى هبوط غير مبرر على الرغم من جودة الأساطير التي اعتمدت عليها كاتب ومخرج العمل.
تصاعد المستوى في الحلقات الثلاث الأخيرة، ففي أسطورة النداهة والتي اختلفت أيضًا بشكل كامل عن الرواية، فلم يكن الطبيب هو الفاعل ولم يكن لعواطف الوجود من الأساس، والتضحية غير المبررة بواحدة من الشخصيات التي جسدها ممثلها بحرفية فقط من أجل إنقاذ جثة النداهة، بدون أي توضيح لماهية حل لغز اللعنة فقط بإنقاذ جثة الملعونة التي لم تنتقم بعد لما مرت به من فظائع، وكأن الحل كان بحاجة فقط لمتعهّد تكفين المَوْتى ودفنهم لتنتهي أسطورة النداهة التي هاجمت قرى ونجوع مصر للأبد. في عالم أحلام رفعت، جاءت الحلقة الخامسة كأفضل حلقات العمل في المجمل، فتجسيد عالم الأحلام ومطاردات الجاثوم كانت جيدة ومشوقة على صعيد الأحداث والإخراج، ثم العودة في رحلة قصيرة إلى أسطورة البيت في خاتمة مقنعة لبطلها بوجود عوالم ما وراء الطبيعة بالفعل.
على مدار السبع سنوات الماضية، شاهدنا الكثير من الأعمال المتنوعة على منصة نتفليكس، والتي تطورت مع مرور السنوات من حيث جودة الصورة والمؤثرات البصرية، فظهرت أعمال المنصة داخل وخارج الولايات المتحدة الأمريكية بشكل شديد الإقناع والاحترافية، وهنا يأتي التساؤل، لماذا لم يظهر العمل في مؤثراته البصرية بالشكل الكافِ سواء مع ظهور المومياء والعساس إلى الكثير من التفاصيل الأخرى، هل اكتفت نتفليكس هنا بالتوزيع فقط ولم تشارك في الإنتاج، هل مازلنا نعاني في إخراج الأعمال التي تعتمد بشكل كبير على الخدع والCGI؟- على الرغم من الكثير من الأعمال التي شهدت تطورًا ملحوظًا في السينما والدراما المصرية في السنوات الأخيرة، أو كانت على الأقل أفضل مما قدمه العمل- وهنا جاءت مؤثرات العمل في خطوة أو قفزة كبيرة للوراء لا تتلائم مع عالم رفعت إسماعيل.
عندما أعلن سلامة مبتكر المشروع الدرامي عن اختياره لأحمد أمين للشخصية الرئيسة في العمل، اختلفت وجهات النظر حول ترشيحه لممثل كوميدي قليل الظهور صاعد بقوة، فالبعض كان يراه غير مناسب بالمرة للدور، والبعض الآخر كان متحمسًا للفكرة، وما بين هذا وذاك كان أمين هو مفاجأة العمل وأكثر المكاسب خلاله. قدم أمين دورًا مميزًا في عباءة رفعت إسماعيل، القدرة على التحول من انطباع لآخر، الأسلوب الساخر الذي يمتاز به ويجيده للغاية، والقدرات التمثيلية الواعدة التي أتاحت له الفرصة في تقديم نفسه في عوالم فنية جديدة تفتح له المجال مستقبلًا، وعلى الرغم من شعور بعض المشاهدين ببعض الهفوات في أداءه; يمكن القول أن السبب الرئيسي يكمن في النص وليس في أمين ذاته. العمل برمته خطو للأمام في مسيرة أمين الفنية والتي عليه استغلالها أفضل استغلال حتى لا يقع في فخ نجوم سابقين ركضو نحو الكوميديا والشخصيات المتكررة على الرغم من امتلاكهم للموهبة الفطرية، وهنا لا نقول أن أمين وصل إلى قمة نضجه التمثيلي والفني ولكنه ما زال أمامه الكثير ويمتلك المقومات القابلة للتطور والتي من الممكن أن تساعده في رسم لوحته الفنية بمسيرة مستقبلية حافلة. فيما يخص الأداءات الأخرى فجاء بعضها مميزًا والبعض الآخر متوسط، ولعل أفضل الأختيارات كانت عبر شادي الشامي والذي يثبت من خلال أبسط الأدوار قدراته التمثيلية المميزة التي تحتاج نظره لتضعه في مكان آخر، بجانب الطفلة الصاعدة بقوة ريم عبدالقادر وسماء إبراهيم في تجسيد جيد لشخصية رئيفة. ووسط تباين الآراء حول شخصية ماجي التي جسدتها رزان جمال ففي الحقيقة لا يمكن القول بأنني شعرت بالانزعاج خلال رؤيتي لها، وعلى الرغم من ابتعادها عن ماجي التي جُسدت في خيالي الطفولي، يمكننا التغاضي عن هذا الأمر حينما نتذكر ترشيحات سلامة في البداية والتي كانت من الممكن أن تقود هبة مجدي، نعم الأمر لا يمكن تخيله. "ما وراء الطبيعة" محاولة جيدة من أجل تقديم الأعمال الأدبية الشبابية الشهيرة على الشاشة الصغيرة، وهي خطوة جريئة وبالطبع محفزة للمزيد في المستقبل، وإن كانت التجربة قد عانت من افتقاد الروح المطلوبة التي رسمها أحمد خالد توفيق في الماضي وبعض المشاكل في السيناريو والنص وطريقة سير الأحداث، فالعمل لمن لم يكن محظوظًا بشكل كافِ لقراءة الروايات سيجد ما يسره بالطبع بغض النظر عن المؤثرات السيئة، أما لقارئي الروايات فالأمر يبتعد كثيرًا عن المأمول، ليس سيئًا بل عمل يستحق المشاهدة، ولكن كنا ننتظر المزيد وقد يتحسن في قادم المواسم لتصحيح المسار.