يعد الفيلم الدرامي "Ma Rainey's Black Bottom" الذي طرحته شركة نتفليكس العالمية على منصتها خلال شهر ديسمبر من أهم أفلام عام 2020 لما يمثله من قيمة فنية عالية، وقد أثار الفيلم ضجة من قبل عرضه نظرًا لكونه آخر فيلم قام النجم شادويك بوسمان بتمثيله قبل رحيله الصادم والمفاجئ في 28 أغسطس من نفس العام.
الفيلم يضم فريق عمل قوي ومتمكن، ولعل ما يعطي الفيلم طابع خاص ومميز هو المصدر الذي تأتي منه القصة، حيث أنها مأخوذة عن مسرحية قام بتأليفها الكاتب المسرحي الراحل أوجست ويلسون عام 1982، والتي عُرضت على مسارح برودواي عام 1984 ثم لاحقًا في 2003.
وتأتي المسرحية ضمن عشر أعمال مسرحية قام ويلسون (الحاصل على جائزتي بوليتزر عن فئة الدراما) بكتابتها منذ عام 1982 وحتى 2005، والتي تُسمى بـ" دورة بيتسبرج" أو"دورة القرن" وهو يقوم فيها بإلقاء الضوء على واقع حياة ذو البشرة السمراء في الولايات المتحدة خلال القرن العشرين.
وقد أعلن النجم دينزل واشنطن أنه سيقوم بتحويل العشر مسرحيات إلى أعمال سينمائية، وبدأ بالفعل عام 2016 بفيلم "Fences" والذي قام ببطولته، وإنتاجه وإخراجه، ونال الفيلم وقتها إشادة نقدية كبيرة، وفازت النجمة فيولا ديفيس عن دورها فيه بجائزة أوسكار كأفضل ممثلة، كما أن الفيلم تم ترشيحه لأوسكار أفضل فيلم، أفضل مخرج، أفضل سيناريو مقتبس وأفضل ممثل.أما في هذا الفيلم فقد قام واشنطن بالاكتفاء بالإنتاج فقط، ولكنه تم الاستعانة بفيولا ديفيس للمرة الثانية، وقد كان اختيار صائب، حيث أنها برعت في أداء دور مغنية البلوز السمراء ما ريني، والتي اُطلق عليها لقب "ملكة موسيقى البلوز". وقد كانت ما ريني من أوائل مغنيات البلوز، مما جعلها تترك بصمة مميزة مهدت الطريق للأجيال التي جاءت بعدها. ويركز الفيلم على جلسة تسجيل بمدينة شيكاغو تقوم ما ريني بعملها عام 1927 مع فرقتها الموسيقية المكونة من أربعة موسيقيين، وهم عازف البوق ليفي (تشادويك بوسمان)، عازف البيانو توليدو (جلين تورمان)، عازف الترومبون كاتلر (كولمان دومينغو) وعازف الكمان الأجهر سلو دراج (مايكل بوتس). وخلال مدة الفيلم التي كانت قصيرة نسيبًا ( 94 دقيقة) سيجد المشاهد نفسه إنتقل لعالم عشرينات القرن العشرين، وخاصة عالم ذو البشرة السمراء حيث شغفهم بموسيقى البلوز، والتي كانت ما ريني تعتلي قمتها في هذه الفترة، وأيضا نرى العنصرية ضد ذو البشرة السمراء والتي كانت أيضًا في أوج قوتها، حيث نرى فرقة ما ريني الموسيقية في بداية الفيلم أثناء سيرهم في شوارع المدينة وهم يرتدوا بدل ويحملوا أدواتهم الموسيقية، وكيف يقوم المارة البيض بالتحديق إليهم كأنهم مخلوقات غريبة.
وقد دارت أغلب أحداث الفيلم في ظهيرة يوم شديد الحرارة بداخل استديو تسجيل يبدو عليه مظاهر الكآبة (وخاصة في غرفة البروفة المتهالكة في الجزء السفلي منه) ،حيث تدور حوارات بين أفراد الفرقة الموسيقية، تصل في بعض الأحيان إلى حد الشجار، إلى أن يصل إلى ذروته في نهاية الفيلم.
قام بإخراج الفيلم جورج سي. وولف، وهو مخرج وكاتب مسرحي لديه رصيد كبير من الأعمال من ضمنها إخراجه لمسرحية " ملائكة في أمريكا" عام 1993 (والتي نال عنها جائزة توني)، أما سيناريو الفيلم فقد قام بكتابته روبن سانتياجو- هدسون (في أول تجربة سينمائية له ككاتب سيناريو)، ولكنه قام بالتعاون مع مخرج الفيلم من قبل كممثل في مسرحية " Jelly's Last Jam" عام 1991.بالنسبة للأداء التمثيلي فقد تفوق الثنائي فيولا ديفيس وتشادويك بوسمان -وقد تعاونا من قبل في فيلم "Get on Up"، حيث قامت ديفيس بدور والده بوسمان الذي كان يلعب شخصية مطرب السول الشهير "جيمس براون" - في أداء أدوارهما بشكل أكثر من رائع، حيث قامت فيولا ديفيس بأداء دور شخصية شديدة الصعوبة (وهي الشخصية الوحيدة الحقيقية في الفيلم)، فقد أخذت على عاتقها مسئولية تجسيد مغنية البلوز الشهيرة على الشاشة، بكل ما فيها من تفاصيل خارجية مثل وضعها لمساحيق تجميل بشكل مبالغ فيه (والتي كانت تبدو وكأنها تذوب على وجهها)، أزيائها البراقة، أسنانها الأمامية الذهبية، وحتى الظهور بإستمرار وهي تتعرق، إلى جانب تقمصها للشخصية من حيث طبيعتها الحادة والعنيفة، وتسلطها في معاملتها لجميع من حولها، ولكنها في نفس الوقت تعلم جيدا أنه بالرغم من نجاحها وثقتها في فرض شروطها، إلا أنها بالنسبة لمدير أعمالها ومنتج اسطوانتها هي مجرد سلعة، لا أهمية لها سوى أن تسجل أسطوانات ناجحة يجمعوا من ورائها ثروة.
أما تشادويك بوسمان فقد كان مبهرًا كعادته ولكنه تفوق في دور الموسيقي الطموح الذي يعاني من ذكريات طفولته المؤلمة التي تركت آثارها القاسية عليه جسديًا ومعنويًا، ولكنه لديه موهبة ورغبة في الإستقلال ليكّون فرقته الخاصة مما يجعله ينفذ تعليمات المنتج الموسيقي أملًا في أن يحقق حلمه في أن يقوم بتسجيل أغنياته على أسطوانات، كما أنه يقوم خلال الأحداث بالصدام مع بقية الموسيقيين لإختلاف وجهات نظرهم في العديد من الأمور ومع ما ريني نفسها بسبب رغبته في عمل توزيع مختلف لأغنية من تأليفها، حيث أنه لديه أفكار جديدة لتطوير موسيقى البلوز لجعلها تواكب العصر، ولكنه يواجه بالرفض من ما ريني التي لا تعلو كلمة فوق كلمتها.الفيلم يحمل إسقاطات عديدة حول الدين، التمييز العنصري والاضطهاد الذي يتعرض له ذو البشرة السمراء وهي كلها نقاط هامة في أعمال أوجست ويلسون. هناك أيضًا عناصر أخرى في الفيلم ساعدت على إخراجه بشكل مميز مثل الأزياء التي تعكس بدقة هذه الفترة الزمنية (قامت بتصميمها آن روث الحائزة على الأوسكار عن فيلم "The English Patient" عام 1996)، وتصميم الإنتاج الذي أعاد فترة العشرينات إلى الحياة (من تصميم مارك ريكر)، هناك أيضًا كاميرا المصور توبياس اي. ستشليسلير التي أبرزت مدى كآبة المكان الذي تدور فيه الأحداث ،أيضا الموسيقى المميزة من تأليف برانفورد مارساليس والتي كانت تحمل طابع البلوز، إلى جانب المكياج وتصفيف الشعر الذي إهتم بأدق التفاصيل الصغيرة. وقد احتوى الفيلم على عدد من أغنيات ما ريني الشهيرة من أهمها "ما ريني بلاك بوتم" وهي عنوان الفيلم (وهي إسم لرقصة اشتهرت بين الأمريكيين الأفارقة في الجنوب الريفي في فترة العشرينات).
وأخيرًا كما تنبأ العديد من النقاد بأن الفيلم سيكون له نصيب في جوائز الأوسكار لهذا العام، فجميع محبي تشادويك بوسمان يتمنون أن يحصل على أوسكار عن دوره في هذا الفيلم، والذي سيكون بالتأكيد تكريم مستحق عن مسيرته الفنية والتي رغم قصرها، إلا أنها كان مؤثرة وملهمة.