بعد غياب عشر سنوات عن الشاشة الفضية تطل علينا أيقونة السينما الإيطالية صوفيا لورين بالفيلم الدرامي "الحياة المقبلة". وقد تم عرض الفيلم بدور العرض بشكل محدود (بسبب جائحة كورونا) في نوفمبر الماضي ثم قامت نتفليكس بعرضه على منصتها في نفس الشهر. قام بإخراج الفيلم إدواردو بونتي (وهو إبن لورين) والذي شارك في كتابة السيناريو مع أوغو تشيتي. الفيلم مأخوذ عن الرواية الفرنسية La Vie Devant Soi للكاتب رومان جاري والتي قام بنشرها عام 1975. وقد تم عمل معالجة سابقة للرواية في الفيلم الفرنسي Madame Rosa عام 1977 والذي فاز بجائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، قامت وقتها الممثلة الفرنسية سيمون سينوري بتأدية دور مدام روزا الذي تقوم النجمة صوفيا لورين بالقيام به في هذه المعالجة الإيطالية الجديدة.
تدور الأحداث حول الصبي السينغالي اليتيم محمد الشهير بمومو الذي يعيش تحت رعاية الطبيب "كوين" (قام بدوره ريناتو كاربنتيري)، ولكنه منذ بداية الفيلم يبدو أنه فتى ثائر ومتمرد، يقع دائمًا في مشاكل بسبب تورطه مع أشخاص مشبوهين. ولكن عندما يقوم مومو بسرقة سيدة مسنة في السوق تدعى "مدام روزا"، يلجأ د. كوين لها لكي يمكث لديها مومو إلى أن يستطيع إيجاد بيت مناسب له. في البداية ترفض روزا تمامًا تلبية طلب الطبيب بالرغم من كونها مشهورة بإيواء أطفال المومسات (نظرًا لكونها كانت مومس في الماضي هي الأخرى) مقابل مبلغ من المال، حيث أنها تدرك أن مومو ليس كبقية الأطفال التي قامت برعايتهم من قبل، ولكنها ترضخ على مضض لإحتياجها للمال حتى تستطيع أن تقوم بتسديد الإيجار.
في البداية يواجه مومو صعوبة في التأقلم على الحياة مع مدام روزا وطفلان آخران تقوم برعايتهما، كما أنه يقوم سرًا بالعمل مع تاجر مخدرات (قام بدوره الممثل الإيطالي ماسيميليانو روسي)، ولكنه مع مرور الوقت يتقرب إليها ويجد فيها شخصية الأم التي يفتقدها.
وبالرغم من بساطة القصة إلا أنها تناقش العديد من الموضوعات الهامة مثل آثار الهولوكست، الشيخوخة والهجرة ، كما أن الفيلم نجح في جعل المشاهد يتفاعل مع الشخصيات ويتعاطف معها، فمومو (قام بدوره الطفل الموهوب إبراهيما جوي) طفل ضائع إتجه لطريق الإجرام كوسيلة لكسب المال، وبالرغم من محاولته أن يبعد الجميع من حوله ولكنه في الحقيقة في أمس الحاجة لشخص يعطف عليه ويعوضه عن حنان الأسرة الذي إفتقده منذ سن صغير. أما النجمة الأسطورية صوفيا لورين والتي بالرغم من بلوغها 86 عام إلا أنها لم تفقد سحرها ولا قدرتها على جذب المشاهد بتعبيرات وجهها المؤثرة والإنسانية، وهي هنا تقوم بدور أحد الناجين من الهولوكوست والتي مازالت تطاردها ذكريات الماضي المؤلمة، حيث أصبحت تدريجيًا غير واعية لما حولها وحالتها العقلية تسوء تدريجيًا. أما لبقية شخصيات الفيلم فقد أجادوا تأدية أدوارهم وتم رسم كل شخصية بشكل جيد ومعبر، فمثلًا نجد شخصية صاحب المتجر المسلم هاميل (قام بدوره الممثل الإيراني بابك كريمي) الذي يعمل عنده مومو ويحاول أن يأخذ بيده ويبعده عن طريق الضياع الذي يمشي فيه. هناك أيضًا شخصية لولا وهي جارة روزا المتحولة جنسيًا (أبريل زامورا) والتي تترك طفلها في رعاية روزا ونلاحظ العلاقة القوية التي تربط بينهما.وقد قام المخرج وكاتب السيناريو إدواردو بونتي بعمل تعديلات على الرواية من ضمنها تغيير مكان الأحداث من باريس إلى إيطاليا، حيث نجح في إختيار المكان الذي تدور فيه الأحداث، فقد تم التصوير في مدينة باري الساحلية بجنوب إيطاليا والتي تذكرنا بمدينة الإسكندرية بسحرها وطابعها الخاص. ومن أجمل المشاهد حينما قام مومو بتهريب روزا من المستشفى على كرسي متحرك والمشي بها في شوارع المدينة ليلًا وحتى طلوع الشمس، ثم نجدهما يشاهدا معًا مشهد الشروق بجانب البحر والمراكب ترسو على الشاطىء والسماء ملونة بلون مائل للإحمرار وينعكس لونها على الماء و روزا تقول له :" يا للسكينة".
كما أن بونتي ركز على العلاقة الإنسانية الرقيقة التي جمعت بين مومو ومدام روزا واللذان بالرغم من كونهما في البداية كانا في صراع مع بعضهما، ففي نظر روزا فإن مومو طفل خارج عن السيطرة، مما جعلها تبدأ أن تفقد صبرها معه، ولكن كل ما كان يحتاجه مومو هو قلب يحنو عليه وشخصية قوية وعطوفة في نفس الوقت مثل روزا لتجعله يهدم حاجز المقاومة الذي قام ببنائه أمام العالم ليحمي نفسه من واقع قاسي لا يرحم.
وبالرغم أن المخرج بونتي من الواضح أنه قام بعمل هذه المعالجة السينمائية الجديدة خصيصًا من أجل والدته، إلا أنه كان إختيار موفق وجريء، فالوسط السينمائي للأسف لا يعطي مساحة كبيرة للنجوم الذين تقدموا في السن، مما يجعلهم بالتأكيد يفوتوا فرصة هامة لإستغلال قدرات هؤلاء النجوم الذين مازال لديهم الكثير ليقدموه، خاصًا إذا كان الدور مكتوب بإتقان مثل دور روزا.وقد فاز الفيلم مؤخرًا بجائزة الجولدن جلوب لأفضل أغنية أصلية وهي أغنية (Io Sì (Seen والتي قام بتأليفها الملحنة وكاتبة الأغاني الأمريكية ديان وارين والتي تم ترشيحها إحدى عشر مرة لجائزة الأوسكار لأفضل أغنية أصلية عن أفلام عديدة كان آخرها عن فيلم Breakthrough العام الماضي.
ولعل عام 2021 يكون هو العام سعيد الحظ الذي تنجح فيه وارين بالفوز بجائزة الأوسكار والتي تستحقها عن جدارة، وقامت بغناء الأغنية المطربة الإيطالية لورا باوزيني وقد تم إصدار نسختين من الأغنية واحدة بالإيطالية وأخرى تجمع بين الإنجليزية والإيطالية. وكانت كلمات الأغنية معبرة عن قصة الفيلم حيث تبدأ كلماتها بعبارة: "حين تنفد منك الكلمات فأنا هنا، لعل الكلمتين الوحيدتين اللتين ستحتاج إليها يومًا هما.. أنا هنا".
وتجدر الإشارة أيضًا لموسيقى جابريل يارد الحالمة والتي أضافت طابع رقيق لأحداث الفيلم. ولعل أهم رسالة يقوم بعرضها الفيلم أنه أحيانًا قد يكون ما يحتاجه الإنسان هو الإهتمام والحب والذي يكون بمثابة طوق النجاة الذي ينقذه من الضياع واليأس.