مبكرًا جدًا، في حوالي نهايات القرن الثامن عشر؛ قال الإمام محمد عبده: "نحن ديوان كلمات والغرب ديوان هيئات، وقد آن لديوان الكلمات أن يستفيد من ديوان الهيئات".
في وقت ليس ببعيد عن صدور هذا الرأي كان الرسام الهولندي فينسنت فان جوخ عاكف على رسم لوحته التي اعتبرها بدايته الحقيقية كفنان، ولطالما اعتبرها أفضل رسومه على الإطلاق وهي لوحة آكلي البطاطس، ليأتي محمد البدري الفنان المصري الشاب متعدد الأنشطة الفنية –بعد أكثر من قرن من الزمان- ويستلهم هذه اللوحة في فيلمه الذي سماه Potato؛ فيحقق بذلك –نوعا ما- الاستفادة التي تحدث عنها محمد عبده من ديوان الهيئات (الفن البصري الأوروبي)، ويواكب في نفس الوقت الاتجاهات الفنية المعاصرة التي تذيب الفوارق بين الفنون من جهة، وتنتهج كثيرا معارضة الإنتاجات الفنية الأقدم فتعيد تقديمها بتنويعات فنية جديدة.
يبدأ الفيلم بمعارضة لفظية في شكل عناوين مكتوبة على الشاشة بين رأي لفان جوخ يقول: "إن الحزن سيبقى للأبد"، ووجهة نظر مؤلف ومخرج الفيلم الذي حرص على كتابة اسمه مع وجهة نظره التي تذكر أن: "الفقر يقضي على كل الفضائل".. معارضة إذن بين الحزن والفقر، وتساؤل عن مفهوم الفضائل التي يغيبها وجود الفقر.
نكاد نجزم أن الحزن وإن كان يبدو مسيطرًا على حياة فان جوخ في مجملها، إلا إنه عندما قال هذا الرأي لم يكن يقصد هذه اللوحة تحديدًا، هذه اللوحة التي قال عنها في بعض رسائله: "أردت وبشدة تخليد تلك اللحظة، لحظة هؤلاء الناس وهم يأكلون البطاطس على مصابيحهم الصغيرة، بأيديهم الخشنة التي يزرعون بها الأرض مطمئنين أنهم حصلوا على طعامهم بأمانة".
إذن فقد سيطرت على الرسام الرغبة في تجسيد الواقع، وتصوير الأمان الذي يكتنف هذه الأسرة التي عرفها بنفسه ورسم بورتريهات لبعض أفرادها عدة مرات قبل ذلك، خاصة المرأة الشابة التي تظهر في اللوحة، كما رسم عدة دراسات مبدئية (اسكتشات) منفصلة للمكان وشخوص الأسرة، وضمَّن بعض رسائله لأخيه تاجر الأعمال الفنية (ثيو) رسومات خطية مسبقة للوحة التي استغرق الإعداد لها زمنًا طويلًا على خلاف معاصريه من فناني الانطباعية الذين لجأوا غالبًا للرسم المباشر دون تحضير. رغم البساطة الواضحة في لوحة آكلي البطاطس، لا نستطيع أن نعتبر أشخاصها حزانى، إنهم فقط يمثلون طبقة البروليتاريا الصاعدة وقتها، طبقة العمال والفلاحين التي تشكل قاعدة المجتمع، هم بسطاء طعامهم يقتصر على البطاطس التي تمثل بالنسبة للهولنديين ما يمثله خبز القمح لنا، إنها أساس عيشهم الذي لا يستغنون عنه، مع بعض أكواب الشاي، فهم مثلنا يحبسون به. أما جلستهم العائلية فلا تخلو من بهجة، نظرة المرأة الشابة لزوجها بشغف طفولي وتعلق أنثوي، والجد العجوز على الطرف الآخر يرفع فنجانه إلى زوجته ربما طالبا المزيد من الشراب الساخن والجدة تملأ لهم فناجينهم الصغيرة ونظرتها مستكينة لا نقول ذابلة، بل مطمئنة.
أكد الرسام بأدواته هذا الجو الأسري من خلال ألوان فرشاته المتجاورة التي رغم شيوع الأخضر القاتم وجو الإضاءة المنخفضة إلا أن الأمر لا يخلو من بعض البرتقالي والأصفر الذان يضفيان حيوية يؤكدها التكوين الذي يجعل كل زوجين معًا داخل مثلث قاعدته البنت الصغيرة، والمثلثان يشكلان ما يشبه جناح فراشة تسهم النظرات المتبادلة وحركات الأيدي في تحريك عين المتلقي داخل اللوحة: عين المرأة تحرك النظر إلى زوجها الذي ينظر نظرة ساهمة إلى الأمام حيث الجد الذي يدفع الفنجان إلى زوجته التي تصب الشاي لتعيد حركة يدها عين المتلقي إلى الفتاة الصغيرة التي ترده بدورها إلى المثلث المقابل الذي يضم الأب والأم، يداهما اليمناوان تلتقطان البطاطس من طبق ضخم ممتلئ بينما أصابعهما تشيران إلى الفتاة الصغيرة، وهكذا تستمر الحركة (الديناميكية) داخل اللوحة بين أفراد الأسرة. كما يشكل مخروط النور الذي ينتهي بالمصباح شكلا مثلثا آخر ولنقل إنه تمثيل ثنائي الأبعاد لهرم قاعدته الأسرة التي هي بوضعها الاقتصادي قاعدة الهرم الاجتماعي.
إذا كانت هذه رؤية فان جوخ، فمحمد البدري في فيلمه يقدم رؤية مخالفة تمامًا، معارَضَة تعتمد فكرته التي تتحدث عن الفقر الذي يقضي على كل الفضائل، فإذا اعتبرنا كلمة الفضائل تشير إلى الأخلاق التي يعتبر بعض الفلاسفة اتباعها ضمانة الفرد أن يعيش حرًا داخل الجماعة، بذلك يكون الجميع سقطوا في أسر العبودية، وفقدوا حريتهم إلى الأبد نتيجة للفقر الذي يدفعهم لفعل أي شيء هروبا منه حتى لو كان ذلك تسميم المستقبل الذي تمثله –فيما يبدو- الفتاة الصغيرة التي مازالت تحلم وتحاول أن تستجيب لمطالبها الغريزية التي تدفعها لتأكل البطاطس المسممة وتشرب الشاي المسمم استجلابًا للذة والشبع والرضا رغمًا عن الخوف الذي يقرقض أبدان الجميع دونَها. حاول صانع الفيلم أن يحافظ على مظهر اللوحة ثنائية الأبعاد مع إضفاء جو التربص والقلق، من خلال الضوء المتقطع الذي قد يكون بالغ في رتابة إيقاع ارتعاشه حتى صار مزعجًا بعض الشيء للمشاهد، كما أن لون الضوء المصفر والتباين المنخفض ساهما في طمس جميع الألوان الأخرى، الكاميرا ليست مثل العين ولا تعالج الألوان مثلها بما يضمن بقاء ألوان واقعية.. الإضاءة الصفراء تطمس الأخضر والأحمر والأزرق وتحولهم جميعا إلى درجات بنية مما جعل المشهد يبدو أحادي اللون، وربما يكون ذلك السبب في قرار صناع الفيلم باستخدام ضوء أزرق عبر إحدى النوافذ وضوء أبيض عبر نافذة أخرى، لكن ذلك أوقعهم في قضية أخرى تتعلق بمواكبة الصورة لأصوات الرعد المتفجر في خلفية الحوار والذي لا تظهر النوافذ أي أثر له، إحدى النوافذ تظهر جوًا كأن الأحداث في ليلة صافية السماء مقمرة، والنافذة الأخرى تقدم ضوءً نهاريًا صافيًا أيضًا.. نبحث عن سبب درامي فلا نجد، حتى فان جوخ نفسه في لوحته اختار أن تكون النوافذ معتمة، وإن كانت ألوان الرسم سمحت له بتنوع بصري لا يتاح لمصور سينمائي يستخدم الضوء، ومع تلك الهنات نعترف أنهم نجحوا في نقل أجواء المؤامرة والخوف والترقب للمتلقي.
من خلال لوحة فان جوخ التي لم يهدف منها إلا إلى نقل أجواء دافئة لأسرة متجانسة تجتمع حول مائدة الطعام، ينقلنا صانع فيلم Potato إلى أجواء تعرض وجهة نظره في الفقر الذي يقضي على كل الفضائل فيستبدل الأسرة بأفراد غير متجانسين، مجموعة من الغرباء يجمعهم بيت واحد ضيق حول روتين طعام شحيح، كل فرد من أفراد المجموعة يدرك أزمته تمام الإدراك، ويشعر أن الآخرين يتآمرون عليه بينما يخطط هو نفسه للقضاء عليهم. المرأة لها نصيب أكبر في عالم انهيار الفضائل الذي صنعه البدري، امرأتان وفتاة صغيرة مقابل رجلين، الرجلان يميلان إلى الدعة، يسيطر عليهما الخوف.. الخوف من ضياع الفضائل، والخوف الذي يخضعهما لواقع يبرر سقوط الفضيلة، وعذرهما ليس الفقر بل الخضوع لنتاجه.. الخضوع لنسائهم، أما النسوة فمعركتهن مع الفقر ذاته؛ الفتاة الصغيرة تتحسر لأن أباها لا يستطيع إلحاقها بالمدرسة لتستمتع وتنجح مثل أقرانها، وتعبر عن فهمها العميق لمخاوف أمها التي تظهر ندة لها تقايض معرفتها بأن الفتاة تحب أباها أكثر مما تحبها بمعرفة الفتاة لسبب قلق الأم، والمرأة الأخرى التي تقابل الجدة في لوحة فان جوخ تبدو أكثرهن عنفًا وقوة وحقدًا، كما تصف نفسها في الحوار، وتعمم الوصف على جميع النساء: "الواحدة مننا لازم تبقى شديدة.. علشان تعرف تاخد حقها.. لو اتساهلت هتتاكل"، تؤكد الكاميرا قوتها تلك بزاوية تصوير منخفضة تجعلها مسيطرة على إطار الصورة التي يظهر فيها زوجها أقل من حجمه الحقيقي. من طرف المائدة الآخر تجيبها المرأة المقابلة: "واضح إنك مش ناوية تجيبيها لبر يا زهرة". قوة بقوة ونفوذ بنفوذ، حسم يجعلنا نتساءل عن سر اسميهما: زهرة وأحلام، لا يبدو واقعيًا ذلك غريبًا، اعتدنا ونحن أطفال أن أقسى المعلمات دائمًا يكون اسمها عواطف.. نوع من المفارقة التي تقدمها الحياة لأهلها فتكون أحيانًا مدعاة للسخرية، وتكون كثيرًا مؤلمة.
خلال هذا الحوار المتكافئ تتحرك الكاميرا حركة أفقية حثيثة ذهابً وإيابًا، تبدأ بامرأة وتنتهي بأخرى مؤكدة أن السيادة في هذا العالم البغيض للنسوة بينما تؤكد نفس الحركة أن الرجلين هامشيين في هذا العالم، أحدهما يجلس ساكنًا في طرف الكادر يكاد لا يبين إطلاقًا، وجهه نحو الداخل.. خارج منطقة وضوح الرؤية (Out of focus)، لا يتكلم إلا عندما يدعى باسمه للحديث: "ولا أيه يا أستاذ راضي"، فيجيب بالإيجاب على سؤال لم يبد أنه تابعه أصلًا، تمامًا كما يفعل جندي مستجد في طابور صباح يحضره لأول مرة في حياته.
الرجل الآخر لم يُذكر حتى له اسم، يجلس في المنتصف وتمر به الكاميرا في رحلتها الأفقية بين المرأتين دون أن تعيره اهتمامًا، لا تتريث عنده، ولا حتى يتم تركيز وضوح العدسة عليه كثيرًا وهو يتحدث؛ فالكاميرا تعرف هدفها ورحلتها محددة بين ربتي المائدة.. صانعة البطاطس وصانعة الشاي. الجميع قلقون، الحذر يتردد من خلال لقطات مقربة مع تصاعد موسيقى شديدة التميز قدمها محمود الشابوري وضفر فيها غناء كورال قديم يبدو مألوفًا مهيبا قدريًا، يدركون أن البطاطس والشاي مسمومان.. لا يجرؤ أحد على التصريح بمخاوفه حتى لا ينكشف.. تبدي الفتاة الصغيرة ضيقها بانتظارهم الذي لا ينتهي وتقرر أن تحسم المسألة فتأكل وتشرب والجميع ينظر لها بأسى أو بقسوة، يرينا المخرج وجه الصغيرة من خلال لقطات أمامية مقربة للمرة الأولى، لكن للأسف نراها وكأنها تحتضر، ثم لا يلبث أن يعود الأشخاص إلى وضعهم الأصلي في اللوحة المرأة العجوز تصب الشاي، عين زوجها معلقة بها والزوجان يأكلان، الفتاة مازالت ظهرها للكاميرا وإن كانت زاوية التصوير منخفضة بخلاف اللوحة فتجعل جسم الفتاة الصغيرة هو الأكبر من الجميع.. لا ندرك تمامًا إن كانت هذه العودة تعني نهاية أجواء الصراع والعودة إلى شكل الأسرة أم أن الجميع قرروا أن يتبعوا الفتاة وينتحروا انتحارًا جماعيًا.
Potato هو تجربة سينمائية تستحق الوقوف إزاءها، مغامرة تليق بصناع سينما واعدين، شارك الجميع في صناعة سينما حقيقية: صورة وإيقاع.. العنصران اللذان جعلا من السينما فنًا سابعًا، القصة والسيناريو، الممثلون بأداء محكم بليغ رغم تفاوت خبراتهم، مدير التصوير وفريقه والملوِّن والمونتير.. فنانو الماكياج.. مصمم الديكور وفريقه، مؤلف الموسيقى ومصمم تراك الصوت.. كتيبة ضخمة رأينا أنها عملت بتوازٍ وتوازن تحت قيادة مخرج واعد.