"يا ريس البحر"
هكذا تبدأ القصة: يا ريس البحر.. خدني معاك.. أحسن لي.. أتعلم الكار قبل العار.. أحسن لي.
ظلت الكلمات تتردد في أذني، وربما في عقلي أو حتى أعمق من ذلك.. في القلب، سنوات طويلة، ومازالت راسخة، أجد نفسي أرددها بين وقت وآخر، أدندن بها مع نفسي وأفاجأ أحيانا بمن يراقبني فأبتسم وأحكي له عن الفيلم، عن صيد العصاري الذي شاهدته قبل سنين، ربما كنت في الثالثة عشرة أو أكثر قليلاً، وعندما شاهدته غير حياتي كلها، فقد جعلني أقرر أن أتعلم الكار.. كار صناعة الأفلام.
أذكر أن أبي رحمه الله دعاني لمشاهدة الفيلم.. فيلم تسجيلي.. عادي.. في هذه الأيام كنا نشاهد الأفلام التسجيلية التي يعرضها التليفزيون، وكان التليفزيون- بالنسبة لجيلنا- بوابتنا الحية شبه الوحيدة على العالم، خاصة في أقاليمنا القصية. كنا نقرأ بشغف، نزور مكتبات عامة مثل مكتبة قصر الثقافة، ونعتكف كثيرا في مكتبات مدارسنا، ندخر من مصروفاتنا مبالغ نخصصها شهريا لشراء المزيد من الكتب، ونقتطع مبالغ ثابتة لشراء مجلات ثقافية شهرية أو دورية مثل العربي وإبداع والشعر والقصة والثقافة الجديدة والمنهل وغيرها، لكن التليفزيون بوابة حية؛ كانت الوحيدة التي تحقق قدرا من المعايشة لم تكن أي وسيلة أخرى قادرة عليه، ومع ذلك ظل التليفزيون يكرر نفسه حتى صار معتادا، وأمسينا قادرين على أن نتوقع ما سيعرضه وكيف سيقدمه.
جلست لأتفرج على الفيلم وما أن بدأ حتى أصابتني حالة غريبة، ربما هي دهشة، ربما نوع من الانبهار.. المؤكد أنها اندماج كامل مع بطل القصة.. لم يكن ذلك مثل الأفلام التسجيلية التي اعتدنا مشاهدتها.. أفلام الآثار أو الحرف التقليدية أو أفلام التوعية الجماهيرية التي نشاهدها في عروض السينما المتنقلة التي تقدم في مدرستنا بين وقت وآخر، حيث صورة تمر وصوت تعليق فخم يحاول زلزلة المشاهد لتصوير جلالة المكان وفداحة الأحداث، ونجلس ملتزمين.. كانت مشاهدة الفيلم التسجيلي بالنسبة لنا –أيامها- التزاما، مثلها مثل الواجب المدرسي، نقدرها لأنها ستفيدنا وستأخذنا إلى عوالم أخرى أرحب من بيوتنا وعالمنا المحدود بين المدرسة والبيت والمسجد والقليل القليل من الفسح، لكن مع كونها مفيدة بالقدر الذي يحببنا فيها؛ تبقى عالمًا صارمًا جادا إلى حد بعيد.
صيد العصاري غيَّر مفهومي - وقتها- تماماً عن الفيلم التسجيلي؛ فوجئت أن الفيلم يمكن أن يبقى تسجيلياً وفي نفس الوقت ممتعًا، دراما ليست مفتعلة، الأبطال أشخاص حقيقيون، الأماكن من الواقع (لا أقول واقعية، بل هي الواقع ذاته)، كما أن الأحداث هي الحياة اليومية العادية في مكان وزمان ما، ومع ذلك يضمن الفيلم تطورًا كالذي ننتظره من أحكم الأفلام السينمائية الدرامية وأكثرها تشويقًا.. أحدهم وصف الفيلم بأنه فيلم شباك تسجيلي، إلى حد بعيد أجد هذا الوصف مناسبًا تمامًا وهو سر صيد العصاري الحقيقي.. نقلنا ونقل الفيلم التسجيلي في مصر من طور الضرورة إلى مرحلة الإمتاع.السيناريو، رغم الحبكة الدرامية؛ ليس بطلاً على الإطلاق، ليس السبب الحقيقي لسحر الفيلم لأن الواضح أنه مثل سيناريوهات معظم الأفلام التسجيلية كتب بعد التصوير، وربما لم يكتمل تماماً إلا بعد تمام مونتاج ومكساج الفيلم، لم يقد السيناريو مراحل الإنتاج بل كان نتاجا لها، وهذا فيما يبدو سبب كون القصة (تسلسل الأحداث) جاء بسيطا تقليديا جدا.. مجرد ربط زمني بين الأحداث يبدأ بطلوع النهار على جزر (مَرَاحات) بحيرة المنزلة، وينتهي بمسير إلى ما قبل الغروب، وبينهما حياة أسرة بسيطة بطلها الولد الصغير (علي السيد) الذي لم يبلغ السادسة بعد، لكن الفيلم أُهدي إليه عند عرضه، وهو أحد الأسباب الهامة في جعل كثير من الأطفال يتعلقون بالفيلم ويقعون في هوى حياته التي مهما بلغت من البؤس والشقاء، ظهرت لنا – حينها- حياة سحرية، تمنينا أن نعيش مثله.. نجد الصيد في البر والبحر، ونذهب إلى المدرسة في قارب صغير.
عندما أشاهد صيد العصاري الآن أسأل نفسي عن سر تسمية علي الغزولي بشاعر السينما التسجيلية، هل بسبب هذا الفيلم نفسه، وهل يمكن أن تقابل السينما الشعر ويضاهي فيلم مثل صيد العصاري قصيدة، أم أن اللقب كان بهدف التكريم فقط فأراد من صاغه أن يضفي هالة بمصطلح له سحره وبهاؤه دون النظر الدقيق في منجز الدكتور علي الغزولي الحقيقي؟أعتقد أن صياغة اللقب لم تأت بسبب فيلم ما، خاصة صيد العصاري، لأسباب عديدة منها أن الفيلم لا يمكن تصنيفه كفيلم شعري، لأن خصائص الفيلم الشعري لا تنطبق عليه، مثل عدم الارتباط بتسلسل زماني أو مكاني تقليدي وهي سمة تميز الفيلم التسجيلي الشعري الذي يعتمد على تدفق اللقطات والمشاهد وتراك الصوت تبعا لإيقاع داخلي خاص بها أو بصانعها وليس مفروضا عليها، وبالمناسبة يمكن أن نجد هذه السمات بوضوح في فيلم آخر للغزولي وهو فيلم "حديث الصمت".
سبب آخر يجعلنا نؤمن أن لقب شاعر السينما التسجيلية لم يطلق على مخرج صيد العصاري بسبب فيلمه هذا، وهو أن الفيلم ظهر قبل سنين عديدة من صياغة مصطلح السينما الشعرية بواسطة بيل نيكولز في كتابه مقدمة في السينما التسجيلية (الوثائقية) Introduction to Documentary 2001.\
لكن ربما كان السبب المنطقي لتسمية المخرج علي الغزولي بشاعر السينما التسجيلية هو المقارنة بينه وأسلوبه مع المخرج الملقب بأبي السينما التسجيلية روبرت فلاهرتي Robert Flaherty والذي لقبه البعض أيضًا بنفس اللقب (شاعر السينما التسجيلية)، وكلاهما اتبع نفس الأسلوب في صناعة فيلمه، من مراقبة حياة أبطاله (شخصيات الواقع) ودراسة علاقاتهم مع محيطهم، مع الطبيعة ومع مجتمعهم المتميز المعزول عن العالم، دون تدخل في مرحلة التصوير أو بتدخل محدود جدا، وهي سمات معروفة عن ما يسمى بالفيلم التسجيلي الرومانسي، وما دام الفيلم رومانسيا، وما دمنا نصف الشعراء عادة بأنهم رومانسيون (حتى لو لم ينتم شعرهم لما يوصف بأنه شعر رومانسي)؛ يصبح الاسم على مسمى حقيقي، ويمكننا أن نصف الدكتور علي الغزولي بأنه شاعر السينما التسجيلية حتى لو لم يكن صيد العصاري -بالضرورة- فيلما شعريا.وبمناسبة المصطلحات، ونحن ندرس ونتأمل فيلم صيد العصاري لنتعلم ونعرف سر رونقه، وكونه قطعة فنية فريدة تزيد مع الزمن تألقاً وقيمة؛ قد يكون مهمًا أن نلفت النظر إلى خطأ شائع وهو تصنيفه كفيلم: (دكيودراما Docudrama)، لأن هذا المصطلح في الواقع يطلق على الأفلام التسجيلية (الوثائقية) التي تعتمد على تمثيل وقائع يستحيل تصويرها وقت وقوعها، وهو ما لا ينطبق على فيلم صيد العصاري، والأولى تصنيفه كفيلم: (دكيوفيكشن Docufiction) لأن المصطلح الأخير يشير إلى استخلاص الدراما أو الشكل الدرامي من الواقع والوقائع المسجلة مباشرة بالكاميرا وقت حدوثها وهو ما يقترب أكثر من الأسلوب الإخراجي لعلي الغزولي في صيد العصاري.
رغم بساطة السيناريو، واعتماد السرد السينمائي في صيد العصاري على شكل القصة التقليدي؛ إلا أن حبكة القصة جاءت محكمة مما جعلنا نتفاعل معها منذ اللحظة الأولى التي بدأت بعرض المكان، البيئة التي تدور فيها الأحداث اللاحقة، وشخوصها الصيادين الذين قدمت صورهم من خلال انعكاسها على الماء، فمثلما جعل الله من الماء كل شيء حيّ كذلك كان ماء البحيرة، بحيرة المنزلة، جديرًا أيضًا أن يكون منبعًا لكل محاور القصة: المحور الرئيسي الذي هو حياة الأسرة وصراعها وصراع الصيادين مع الطبيعة، ومحاور فرعية عديدة تحرك القصة وتدفعها إلى النهاية التي هي بداية جديدة كالحياة نفسها التي تولد من جديد كل يوم.
الذهاب إلى المدرسة حيث يصارع الولد الصغير الطبيعة متمثلة في ماء البحيرة وعشبها حتى يوصل أخته إلى مدرستها، ثم سباقه مع الزمن ليصل مدرسته في الوقت المناسب.
الأخ الأكبر مع زملائه من الصيادين وجريهم وراء لقمة العيش من خلال مجاهدة يومية وجدل عضلي مع الطبيعة التي تمنح الرزق الوفير، لكن لا شيء مجاني.
الأب (الريس) الذي يحرك كل شيء ويحفز ويعلم دون أن يتحرك من فوق مصطبته.
الأم مع نساء البيت ودرس عملي في كيفية إعداد الطعام في هذه المنطقة النائية بدءا بالخبز الذي يبدو لذيذًا كما يظهر من نظرة الصغير النهمة ومن قضمته باستمتاع لما قدم له، ثم طهو السمك بطريقة تبدو غريبة لسكان المدن غير الساحلية.
رحلة الولد المسائية واستجمامه بعد المدرسة، وظهور الصيادين ذوي المظهر المخيف، ثم اكتشافنا أنهم طيبون.
إطعام البقرة وسقي الحيوانات.
رحلة صيد العصاري التي تنتهي بحصول الولد الصغير على صيد فاق توقعه.
كل هذه المحاور تم عرضها بتفاصيل دقيقة، كل محور في مشاهد وتسلسل: لقطات واسعة كاشفة، مع عدد كبير جدا من اللقطات المكبرة التفصيلية التي لا تترك صغيرة أو كبيرة حتى تسجلها: الأيدي والأذرع، والطيور الصغيرة التي تسعى والتي وقعت خطأ أو رغما في الشبك، تفاصيل خياطة الأب للشبك، وتنظيف الأم للسمك قبل طهوة، رسوم الصغير في كراسته، ورغيف الخبز ينضج فوق نار الفرن البلدي العتيقة، أشهد أنني عن نفسي استفدت كثيرا من مشاهدة ودراسة هذه اللقطات وتسلسلها، وعلى مدى حياتي المهنية، ومع تصوير العديد من الأفلام التسجيلية والفيتشرات والتقارير التليفزيونية عن مواضيع شبيهة للعديد من القنوات المحلية والعالمية، كانت هذه اللقطات من صيد العصاري تحضر في ذهني دائما أثناء التصوير وتفيدني كثيرا في اتخاذ قرارات موقع التصوير التي عادة لا مجال في التراجع عنها أو التباطؤ في حسمها. أما تراك الصوت العبقري هذا حدوتة أخرى، دون شك بالنسبة لمن اعتاد مشاهدة أفلام تسجيلية تقليدية معظمها ذات طابع معلوماتي، أو تعليمي، أو توعوي، تعتمد أحيانا كثيرة على التعليق ربما أكثر حتى من اعتمادها على الصورة؛ فإن مشاهدتنا لصيد العصاري كان نقلة نوعية كبيرة جدا في فهمنا لمعنى الصوت في الفيلم التسجيلي وكيف يمكن أن يكون عملاً فنيا لا يقل قيمة ولا إمتاعاً عن باقي عناصر الفيلم، بل يمنحها حياة أخرى وأبعادا لا تكتمل إلا بوجوده، فهمنا للمرة الأولى في تاريخ علاقتنا بالأفلام أن الصوت ليس شيئا تابعا سلبيا للصورة أو موازيا لها، بل مجموعة عناصر تضفيرها معا قد يمنح الفيلم قوة ومتانة لا يتصورها أحد، من هذه العناصر في فيلم صيد العصاري:
- صوت مصاحب تم تسجيله أثناء التصوير.أصوات الطبيعة من أصوات العصافير وغيرها.
أصوات المؤثرات الحية المصاحبة مثل صوت ضرب الصيادين لسطح الماء وحركة الأقدام وجرس المدرسة وغيرها.
الموسيقى التصويرية التي ألفتها خصيصا للفيلم الدكتورة منى غنيم وهي حدوتة إضافية مستقلة استطاعت أن ترافق بطل القصة وتحكي قصته بتصوير صوتي مبدع جعلنا نشعر بطفولته وسعيه ومجاهدته الحياة القاسية وخوفه عند ظهور الصيادين ذوي المظهر المخيف، ثم جعلتنا فجأة نتحول بمشاعرنا ونحن نراقب تحول مشاعر الصغير من الرعب والترقب إلى السعادة والمرح حتى بدا الصيادون عندما انكشفت حقيقتهم كما لو كانوا مهرجين في سيرك بعد أن ظننا أنهم مجموعة لصوص جاؤوا بالأذى للصغير.
المواويل الموازية، أربعة مواويل وزعت بالتكافؤ بين مشاهد الفيلم وهي بالتوالي: (يا ريس البحر)، (أمانة يا بحر)، (يا مليح الحلو نادي)، ثم (عاتبت ع الوقت)، وأخيرا يتكرر الموال الذي بدأ به الفيلم (يا ريس البحر) مع تغيير طفيف في الكلمات: "يا ريس البحر خدني معاك علمني أتعلم الكار بدل العار علمني"؛ فاستبدل (علمني) بتعبير (أحسن لي)، وصارت (قبل العار)؛ (بدل العار)، إشارة إلى ختام وليس نهاية فمازال صغير جديد، طفل أصغر حتى من (علي) بطل الفيلم يلحق أبيه (الريس) يهرول مع كلمات الموال التي تتكلم عن الرغبة في تعلم الكار بدل العار، في إشارة لبداية جديدة وامتداد لحياة مستمرة لا تنقطع، أولها وآخرها علام (تعليم) وبينهما صيد.. صيد البحر والبر.. صيد الفجرية، وأيضًا.. صيد العصاري.