المخرجة عطيات الأبنودي، التي كرست حياتها لتوثيق الحياة بدقائقها، حتى الموت أبهرتنا عندما عرضت وقائعه في فيلم إيقاع الحياة.
أذكر جيدا هذا المشهد أو المشاهد التي توثق أشكالا من الاحتفاء بحادثة الموت في الصعيد الجواني، كانت جزء من فيلم إيقاع الحياة الذي شاهدته ضمن العروض الأسبوعية لنادي السينما في المركز الثقافي الروسي بالقاهرة في حضور مخرجة الفيلم.
رغم مرور بضعة وعشرين عاما على هذا العرض، ورغم أن الفيلم يحتفي بكل مظاهر الحياة في الصعيد التي تبدو مميزة جدا وربما غريبة لأبناء المدن، إلا أن تصوير الفيلم لعادات الموت كان الفصل الأكثر إبهاراً بالنسبة لي؛ فالحياة في الصعيد بتفاصيلها لم تكن حينها غريبة عني وأنا حديث القدوم من الصعيد، كما أن تلك التفاصيل التي تبدو عتيقة تظل حديثة وحادثة كل يوم حتى الآن.. عندما تستقل قطارا إلى الصعيد تحس أنه يأخذك على خط زمن كالذي تراه في برامج المونتاج، الخط الذي يسير عليه الفيلم متقدما بأحداثه، لكن القطار يسير إلى الخلف، كلما تقدمت جنوبا عدت بالزمن فرأيت نفس العادات والأماكن والوجوه وحتى الأحداث التي تركتها قبل زمن، وربما التي تركها أجدادك وأجداد أجدادك قبلك وقبل زمان الزمان.
مشهد الجنازة الصعيدية كان مخالفا جدا لما قد تتوقعه، يبدأ برصد مجموعة من النساء متشحات بالسواد، ترصدهن الكاميرا من الشاطئ الآخر، منهن جالسات القرفصاء، وواقفات، وخمس منهن تقريبا تحجلن حجل الغربان تتقدمهن فتاة ربما هي أصغرهن سناً، وهي الوحيدة الكاشفة عن شعرها، لصغرها تبدو كما لو كانت تلعب، فالحجل كما اعتدناه نوع من اللعب (لعبة الحنجيلة أو الحجلة)، في مناطق أخرى يعدون الحجل رقصة باعثة على البهجة، ويغنون للحجالة: "القلب مال على رقصة الحجالة"، أما هنا فالمشهد يرصد أكثر أشكال الحجل قتامة وكآبة، عادة قديمة حتى في أيامنا تلك كانت اندثرت وهي حجل بنات المتوفي أي سيرهن على رجل واحدة مقلدات مشية الغراب، ربما تعبيرا عن سوء ما أصابهن؛ فبعد أبيهن صرن عاجزات تمشين بساق واحدة.. ربما أيضا كان الحجل رمزا للغراب الذي هو غراب البين المشؤوم في ثقافتنا والذي يتطير الناس برؤيته لأنه رمز الموت والرحيل..
ربما أيضا كان الحجل تمثيلا لمقولة عربية قديمة: "مَثل الغراب يقلد مشية الحجل"، والحجل الأخيرة هذه هي اسم طائر أنيق يشبه الحمام أو اليمام وأصغر حجما منهما كما أن عنقه مزركش كما لو كان مرتديا رباط عنق يكمل به أناقته، والمشهور أن هذا الطائر يمشي مزهوا بنفسه، وتقول القصة التراثية أن الغراب كان يسير بشكل عادي، لكنه أراد تقليد الحجل في مشيته فلم يستطع، وفي نفس الوقت لم يعد قادراً على أن يعود إلى مشيته الأولى فصار يحجل، أي يتقافز على ساق واحدة، ولما كانت الثكالى تنتظرن مصيرا مبهما بعد رحيل عائلهن فهن مثل الغراب لن تستطعن العودة لما كانت عليه حياتهن في كنف رجلهن.
عادة الحجل ولطم الوجوه وخمشها ووضع الطين أو التراب على الرؤوس، وحتى خروج النساء في الجنازات والصويت والعويل، كل تلك العادات الكئيبة الذميمة اندثرت لأسباب دينية أو اجتماعية أو لمجرد أن الحياة تطورت، ولم تعد حاضرة إلا في كلام الناس كنوع من استهجان سلوك ما، لكن فيلم إيقاع الحياة وثق ربما آخر مظاهرها، مما يجعله وثيقة بصرية مهمة.
صوت العويل للنسوة المجتمعات يكاد يصم الآذان رغم قدومه من بعيد، من الشاطئ الآخر لكنه قوي بالقدر الكافي لجعل القلب ينقبض..
تتسع زاوية الكاميرا فتكشف تكوينا يذكرك بالرسوم على مقابر الفراعنة، حيث الحياة تدور على مستويات عديدة تتراكب فوق بعضها رأسيا في شكل خطوط أفقية، فوق أعلى خط تتكشف حواف الأشجار، ثم يلي ذلك خط تنتظم أعلاه بيوت القرية، بعده خط يمثل طريقا تسير عليه النسوة اللاتي تتدفقن في اتجاه الجمع النسوي الجنائزي، بعده خط آخر يفصل اليابسة عن ماء الترعة وانعكاس كل هذه الصور على الماء يكرر ويؤكد التقسيم الأفقي للحياة بنفس الطريقة التي رسم بها قدماء المصريين مشاهدهم على جدران المقابر والمعابد، يبدو أن الرسامين في مصر القديمة كانوا أيضا ينظرون إلى الناس من الشاطئ الآخر، عبر نهر النيل مثلا؛ لم لا وقد كانت معيشة الشعب في الشرق بينما فنانوه منشغلون في الغرب ببناء المقابر والمعابد تمهيدا للحياة الأخرى؛ فصار طبيعيا أن يروا كل شيء بشكل مجرد جانبي (بروفيل)، وكأنهم يصورونهم بعدسة طويلة البعد البؤري (تلي فوتو) مثلما فعل طارق التلمساني وهو يصور هذا المشهد.
قصت لنا المخرجة المرحومة عطيات الأبنودي قصة تصوير مشهد الموت الذي كاد الفيلم ينتهي دونه، قالت إنها أرادت أن يتضمن الفيلم توثيقا لوقائع الموت أو الجنائز، فالحياة لا تكتمل إلا بوجوده.. هنا أخبرهم البعض أن مستشفى قنا العام يخرج كل يوم منها جنازة أو أكثر، وليس ذلك غريبا فعادتنا كمصريين خاصة في الصعيد ألا نذهب إلى طبيب إلا إذا اضطررنا أو دنى الأجل، أما الأوجاع العادية فنحن نتركها تمر بنا وتعبرنا حسب التساهيل، قد يكون ذلك السبب في مقولة ارتبطت عند الأخوة من أهل قنا بالمستشفى العام أو المستشفى الأميري، فهم يقولون: "الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود"، هذا إن خرج طبعا سائرا على قدميه، لذلك عسكر فريق الفيلم أمام المستشفى وانتظروا أول جنازة تخرج ليصوروها..
بدت المسألة سهلة، لكن فيما يبدو كان وجه صناع الفيلم حلوا على المواطنين المحليين، فظلوا منتظرين طويلا دون أن تخرج جنازة واحدة من المستشفى حتى شكوا في صحة المقولة، واضطرتهم ظروف الإنتاج إلى اتخاذ قرار العودة إلى القاهرة..
في طريق العودة وهم سائرون بمحاذاة إحدى الترع فوجئوا بالمشهد النادر للجنازة على الشاطئ الآخر، قالت عطيات الأبنودي إنها فوجئت بالمصور وفريق العمل وقد أوقفوا السيارة وفي لمح البصر نصبوا كاميرتهم وبدأوا يصورون، فالجميع صار مندمجا مع الفيلم والهدف واحد وصاف وواضح المعالم، ربما يفسر ذلك لماذا بدأ المشهد بلقطة مقربة للنسوة الحاجلات على العكس من الترتيب الأكاديمي للقطات حيث تعودنا أن نبدأ بلقطة واسعة مشهدية تكشف للمشاهد مكان وأجواء وقوع الحدث، أما في هذه الحالة أراد المصور أن يضمن توثيق تفاصيل الموضوع، وبعد أن اطمأن أن لديه تسجيلا (فوتاج) كافي، بدأ باطمئنان يطبق قواعد صناعة الأفلام بتصوير تسلسل من اللقطات الواسعة ولقطات التفاصيل.
إلى هنا كانت اللعبة لعبة صدفة.. استطعت بمجرد مشاهدة اللقطات الأولى أن أخمن ذلك، لكن ما أبهرني فعلا سلسلة من اللقطات الحقيقية من داخل بيت والمأتم قائم والنسوة تبكين بحرقة.. السؤال الذي تبادر إلى الذهن: كيف استطاعوا أن يقنعوا أهل الميت بالتصوير؟ المؤكد أن المشهد ليس تمثيلا، تستطيع أن تتبين ذلك بجلاء.. ليست مدعية هذه العيون التي تذرف الدمع، ولا البكاء والنحيب يمكن أن تتصور أنه لممثلات تؤدين دورا مدفوع القيمة.
القصة كما أخبرتناها المخرجة ببساطة أنهم بعد حصولهم على اللقطات النادرة للمسيرة الجنائزية وبعد أن تتبعوها تحمسوا فتتبعوا جنازات أخرى بعضها ذهب إلى مقابر المسلمين وأخرى إلى مقابر المسيحيين، تحمسوا أكثر، وتحمس مرافق لهم من أهل البلد، فاقترح حيلة، حيث أخذهم إلى بيته وخرجت امرأة من نساء البيت تصرخ فلم تلبث نساء القرية أن توافدن إلى البيت، ظن الناس أن أهل البيت عندهم (ميت) فهرعت النسوة تؤدين واجب العزاء، وفاجأهم وجود المصور والمخرجة في ركن البيت والكاميرا منصوبة توثق تفاصيل الحدث.. أخجلهم المقام، جائز، ومن الجائز أيضا أنهن انشغلن بالبكاء والنحيب عن التفكير في سر الرجل والمرأة الغريبين وماذا يفعلان. هكذا تم توثيق الحدث الذي قد لا يتسنى لمخرج أو مصور وثائقي تصويره مرة أخرى.