كالعادة، كان دانتيل مثل اسمه حديثا شفافا عن حُسنٍ أخاذ لا تخفيه إلا رقة العالم غير المأخوذ بصخب الألوان.
هل كان ذلك في زمن ماضٍ، أم أن عبقا من الماضي يكتنفه؟!
لن تعرف.
إنه فقط فيلمٌ قصير يتحدث عن مشاعر راقية برومانسية شاعر يتغزل في الجمال.. جمال متنوع يحيط عالمنا البسيط ويتغلغل في تفاصيل يومنا العادية.
دانتيل، هو تلك الغلالة التي تمكننا من الرؤية، لكن الرؤية من خلالها تقدم الحياة برقة.. بعذوبة.. بنعومة رائعة تغلف الأشياء ولا تحجبها.
يبدأ الفيلم بصوتٍ يتصاعد تدريجياً، يتكشف كنهه رويداً؛ يبدو كصوت بحرٍ هادئ، أو نسمة صباحية تتلقاها زقزقة عصافير استيقظت لتوها.. لكن الصوت يتقدم مع الزمن فينكشف؛ إنه صوت الحياة اليومية العادي في مكان رمزي.. قرية قديمة.. مدينة عتيقة؛ أو حيٌّ منعزل.. أول ما يظهر منه لقطات مجمعة.. غلالة من الدانتيل.. هل هي ستارة على شباك، أو ناموسية على سرير قديم (أبو عمدان)، أو ربما وشاح، طرحة على وجه عروس تتقدم نحو حياة جديدة.. في كل الحالات تواجه تلك القماشة الرقيقة الشمس المباشرة لتحولها إلى نور.. نور مهذب يمكننا رؤيته وتأمله دون أن يجرح أعيننا.
مع العناوين يظهر المكان دون أن يفصح عن مكانه. هو -ربما- عند سفح جبل أو تل.. الأرض جدباء منبسطة رغم أن التل في الخلفية تغطيه شجيرات برية وعشب تحسه رياناً رغم أن بعده يظهره بلون شاحب بعض الشيء، يجعله قريباً من نفس مجموعة الألوان.. تدخل سيارة من موديل قديم، سيارة أوروبية ربما من سبعينيات أو ثمانينيات القرن الماضي.. صفراء اللون (نعرف فيما بعد أن اللون الأصفر بالنسبة للبطلة هو لون الأمل) تدخل السيارة الكادر مثيرة لغبار يساهم في جعل كل تفاصيل اللوحة ناعمة.. الألوان غير المشبعة، والتفاصيل غير الحادة، والتباين المنخفض؛ كل ذلك يقدم لنا بالتة الألوان التي ستسود الفيلم بعد ذلك، ويجعلنا نشعر أننا إزاء لوحات مرسومة بألوان مائية رغم أن عبق ألوان الزيت يشبع أعيننا ويشعرنا بعمق الألوان ورسوخها.تلك السيارة العابرة تقدم لنا كود الألوان، كما تحمل لنا بطلة الفيلم، امرأة عادية تدير محلاً للزهور في مجتمع صغير متآلف.
يبدأ المتن.. القصيدة.. الفيلم.. لوحات متتالية تقدم لنا محل الزهور وصاحبته تنسق زهورها التي جلبتها للتو.. تتراقص.. تتراقص؛ لا ترقص.. تهز جسدها طرباً، والطرب لا يعني الفرح، لكنه نوع من الاحتفاء بحزن.. ألم.. حاجة.. شجنٌ لشدة عمقه وتوغله في النفس يظهر في صورة بهجة.
في الخلفية نسمع أشهر ألحان حسن أبو السعود: "شك شاك شوك".. الكلمات لم تعد ذات أهمية إلى جوار ذلك اللحن الذي لن تجد راقصة مشهورة أو مغمورة التي رقصت عليه.. يكاد يكون فقرة رئيسية في ملاهي القاهرة وبيروت وكازابلانكا الليلية.. ابحث عنه على يوتيوب وستجده أيضاً قادما من مانهاتن ولندن وسيول وطوكيو.. من مدارس تعليم الرقص الشرقي في كييـڤ وموسكو إلى مطاعم باريس وروما وقبرص، من كل مكان في العالم اهتزت عليه خصور الحسان ومع ذلك يدهشك كم الحزن الذي يوقعه هذا اللحن في نفسك.. حزن جميل لكنه جمال كجمال الزهور التي تضربها السكاكين، وتقطعها المقصات من أجل أن يسعد بها الآخرون.سيدة الزهور تبدو كنموذج لامرأة معاصرة، ليس فقط في لبنان، لكن في أي مكان من العالم.. سيدة جميلة.. وحيدة.. متوسطة العمر.. حياتها عادية.. عادية تماماً.. يسيطر على مشاهدها الوجود في العمل، المحل الذي ترصده الكاميرا من الداخل في معظم الأحيان.. يبدو في المشاهد الأولى كما لو كان محل زهور في مواجهة غابة استوائية، ساعد في ذلك التباين المنخفض للألوان وهو الشائع في كل الفيلم، وأيضاً الدخان القادم من الخارج الذي يبدو كشبورة ممتدة الأثر.. نتخيل طالما البطلة ترتدي ملابس صيفية، فستاناً قصيراً بأكمام مختزلة؛ فلابد أن ذلك مناخ استوائي.. جو شديد الرطوبة، لكن ذلك يتبدل نوعا ما في المشاهد التالية، عندما نكتشف أن ما يواجه المحل ليس إلا حائط بيت مقابل، عندما انقشع الضباب، وعلق أحدهم سجادة حمراء.. دلاها من شرفة فيما يبدو.. بدأت الأمور تتضح.. ربما كان ذلك إشارة لتغيير الفصول، في الواقع لم يتغير نمط ملابس البطلة ليشير إلى أي انقلاب للطقس؛ لكن تبقى معلومة جيدة أن الزمن يتقدم حتى لو لم يقدم الفيلم أي حسم بشأن الزمن.. أحداث الفيلم يمكن أن تقع في أي زمن وفي أي فصل من فصول السنة.. كل ما هنالك أن الزمن بطيئاً.. رزيناً.. يتقدم.
الأحداث تتوالى، الرابط الوحيد بينها هو أنها أحداث يومية عادية، لا نستطيع أن نقول إنها تتدفق؛ ليس ذلك ما يحدث، لكن هل يربطها -ربما- أنها مستوحاة من عالم أنثوي.. تحضر المرأة في الأحداث على مستويات عدة ومن خلال محاور عديدة يربطها المكان، ويصرح صانع العمل بشكل مباشر أنه استوحى الفيلم من أمه. طوال الفيلم نلتقي بعالم المرأة: سمر، البطلة متوسطة العمر التي تعيش وحيدة، والسيدة (طنط سيدة) التي تبدو كما لو كانت وحيدة أيضاً.. مسنة محبة للحياة، يغضبها كون نبتتها (الجاردينيا) لم تزهر بعد كما تتصور أنه ينبغي لها، وتتأمل بتذمر كلمات سمر (بائعة الزهور) التي تؤمن بعمق أن أوان الزهر لم يحن بعد.. تتزين طنط سيدة كالمراهقات وتبدو عباراتها عنيدة نزقة مثلهن أيضاً، وترقص في زفة بين الأزقة، أهل الحي يزفون عروساً إلى عريسها الذي لا يظهر أيضاً.. الرجل هنا حاضر رغم غيابه، وسمر أيضاً حاضرة في بوكيه الورد الذي وضبته منذ قليل رغم أنها -فيما يبدو- الوحيدة التي لم تحضر العرس، لكنها تمر بالزفة سائرة عكس اتجاهها، وفي أثر الزفة تعلق عينها وقلبها بالشريك المحتمل الذي يبدو منجذبا أيضاً إليها.. ولا يترك خيالها حتى يسيطر على حلمها. في المشهد التالي يفد إلى محل الزهور رجلٌ رأيناه من قبل في لقطة اعتراضية لم نفهمها في وقتها: الرجل، وامرأتان تفران منه.. ربما زوجته وابنتها المراهقة مثلاً.. يحاول إيقافهما دون جدوى، فيسند ظهره إلى حائط البيت مطأطئ الرأسي بخزي؛ وتمر به سمر حاملة بعض الزهور.. الآن يبدو أنه وجد ضالته، وجد حلاً لمشكلته مع نسائه في الزهور.. يأتي إلى محل الزهور ويطلب بوكيه ورد.. لم يستطع أن يحدد لأي مناسبة.. هو حائر، وسمر تقترح عليه اللون الأصفر.. اللون الذي تراه هي رمزاً للأمل، وتمنحه وردتين.. فالأمل لا يأتي وحيداً.. هي أيضاً تشتاق إلى أمل ما. في المشهد التالي يتقدم أملها إلى أحلامها.. في بيتها تبدو وحيدة.. تتأمل الكاميرا جسدها الفينيقي المحبوك من علٍ بعين نحات إغريقي كلاسيكي يقف على شاطئ ليس قبالته أنثى إلاها.. أنثى ذات جسد ناضج شهي تغرق الكاميرا في تأمل تفاصيله، وتقدم استعراضاً.. رقصة بالأيدي تذكرنا بحركات الأيدي في لوحات رسامي الكلاسيكية الجديدة عندما رسموا الملائكة بخصال وهيئات بشرية.. تدخل مع يد البطلة يد أخرى.. يد رجل لا يظهر إطلاقاً، لكنه حاضر مندمج في تناغم تام ليكمل الرقصة.. اللوحة التي لا تتم إلا بيدين، وجسد واحد.. علاقة تنبهنا أن الفيلم ليس عن المرأة، وليس لها، وهو أيضاً لا يقدمها هدية براقة لعين رجل؛ لكنه عن هذه الصلة الشفيفة الراقية بين البشر التي تجعل أحدهم أنثى تنتظر رجلاً يأتيها آخر الأمر حاملاً زهرة من محل زهور تملكه هي.