رحلة مفعمة بمشاعر الألفة والمحبة المجردة لوجهين قريبين إلى القلب: وجه حسناء.. سمراء.. بضَّة، رطبة الابتسامة، ذات نظرة طامحة إلى الرفقة كعيني طفلة رقيقة تتطلع إلى أبيها العائد من غياب طويل. ووجه عطَّر طِيبَه الشَّيبُ فأحاطه بهالة من نور كالقديسين في الأيقونات العتيقة أو كالآباء العاديين في الحياة العادية، ظاهر لا يستطيع أن يخفي كونه رجلاً دأب على الظهور، الشهرة.. دأب على احتلال بؤر الضوء ومراكز الاهتمام، ثم انزوى بفعل الزمن أو الشيخوخة في زاوية منسية، كأنه صار راغباً عن ملذات الحياة.. زاهداً زهد صاحب تجربة تخطاها فصغرت أمامه، لكنها مازالت أمامه. رحلة يضفرها حوار رقيق يأخذنا بسلاسة من حكمة إلى حكمة.. كأنه الحياة مختصرة؛ لا تستطيع أن تفوت منه كلمة. وحل.. هذا الاسم اعتدناه مرتبطاً في أسماء الأفلام التجارية بالملذات والشهوات والجرائم، لكن هنا صانع الفيلم يفسر الكلمة بمعنى مغاير.. يبدأ الفيلم صراحة بالتفسير: "تتطلع ع الأشيا اليابسة.. موجودة بس يابسة.. بتقول بدها ميّ.. تسقيها.. كتير بتسقيها.. بتصير وحل". لقطات لأشياء ساكنة تحاول استكشاف هذا العالم اليابس الذي تتكلم عنه الراوية، من لقطات للمدينة في لحظة صمت، غفوة لا تهتم بالبيوت إلا ككتل صماء.. ثم تفض الكاميرا ستر هذا الجمود.. نتسلل رويداً إلى داخل البنايات، وإلى قلب شقة تكشف ببطء عالمها الخاص، يبدو أيضاً عالماً ساكناً: كراسي منسقة وأريكة لا يشغلها أحد.. ضوء جانبي يميل إلى السخونة كأنه شعاع ما قبل المغيب، أو ربما شمس تتململ في انتظار شروق جديد.. ثلاث لوحات متدرجة الحجم، لا نستطيع تمييز محتواها، لكننا على أكبرها نرى بوضوح توقيع الفنان النمساوي جوستاف كليمت Gustav Klimt الفنان الذي اشتهر بحضور المرأة في معظم أعماله، لكن الرسم هنا مبتور رغم وضوح التوقيع.. يبدو أن ذلك تعبير مضمن عن غياب المرأة.. نعم صاحب هذا المكان رجل يأكل وحيداً، والوحدة لا تَمْثُـل في حضور حواء.. حواء، الأنثى التي يصورها الغياب فيكون حضورها مبدأ للحياة.. للقصة.. للفيلم.
تخترق الأنثى (حواء) عالم الرجل الوحيد، العجوز المنعزل في مسكنه، في صورة شابة.. مخرجة شابة وجدت فيه موضوعاً لفيلمها الجديد، ربما فيلمها الأول فهي تبدو بعد طازجة التجربة تكتشف العالم.. تلج إلى الدنيا من خلال بوابته.. هو نجم كان لامعاً لكنه انزوى وهي -بعد- الحياة مضطرمة تدب من جديد في ذكرياته.. هو لا يريد أن يعود للشهرة.. لم يعد يأبه لها.. مهما كان بريقها ما الذي يجعلها ذات أهمية عند شيخ وحيد.. جاره صاحب المخبز، صانع الخبز (صانع العيش كما نقول في مصر) مازال يذكر أيام المجد ويصر على تعريف زبون عابر بجاره النجم اللامع.. لكن الزبون لا يعرفه.. أمر صادم بالنسبة لصانع العيش، لكنه موضوع عادي بالنسبة للشيخ العجوز، الذي ربما يدعي أن الأمر لا يفرق معه.. يمط شفتيه ويعلق مترفعاً: "بتصير". المرأة الشابة ترى أن عليها تقليب المواجع عليه.. بنزق إنسان يتعرف على الدنيا.. يكتشف دنيا لم يلحق بعد منها شيئاً، وهو النجم الذي كان يقدم عروضه على مسرح البيكاديللي، وما أدراك ما البيكاديللي.. مسرح شارع الحمرا الذي اعتبر لزمن طويل مسرح الصفوة.. صفوة الجمهور من علية المجتمعات.. الأمراء والوجهاء الذين كانوا يشغلون مقاعده، وصفوة الفنانين أيضاً الذين احتلوا خشبته.. المسرح الجامح الذي اعتلت صهوته سيدة أيام الجمال والألق السيدة فيروز، وغنت فوقه بصوتها (صوتها فقط دون ميكروفونات) في حادثة شهيرة أضفت على هذا المسرح العتيق رونقاً لا ينسى حتى بعد أن أغلق، وحتى بعد أن تعرض لحريق مؤسف.. لازالت قصصه تتردد في العالم أجمع.. هذا المسرح العريق كان لنجمنا العجوز نصيب عليه.. مثل وتألق.. قال جملته الأشهر والتي طغت على العمل الذي قيل فيها وعلى النجم ذاته؛ فخبا أمام شهرتها.. تبدو مجرد كلمة عابرة: "أنا بلبل بالإنجليزي". ربما لا تعني لنا شيئاً عندما نسمعها بعيداً عن السياق.. السياق دائماً هو الأهم.. لكن بالنسبة للممثل الذي قالها، والذي هو في حد ذاته السياق؛ كانت هذه الجملة كفيلة بإثارة حنقه، يغضب لأن المخرجة الشابة تصر أن الموضوع مهم بالنسبة له: "ليه مصرة إني أكون زعلان من شيء؟!"، لقد ظل لسنوات يحاول نسيان طغيان هذا العمل عليه هو ذاته.. يتذكر الناسُ القولَ وينسون قائله.. الشابة اليافعة تغرس سكين الماضي في قلبه الساكن.. محبة دون شك.. بريق عينيها دائماً يبدو، والسعادة تتدفق كلما نظرت إليه.. إنها لا تريد أذيته.. إنها تريد فقط أن تسكب بعض الماء على جذعه اليابس.. دور المرأة القديم في الحياة.. هي لا تهب الحياة.. لكن واهب الحياة أعطاها القدرة لتصير الحياة نفسها.. بدونها لا يصبح للحياة وجود.. وبوجودها توجد قيمة لحالة العيش.. يتحول الرجل من كائن يعيش إلى آدم يحيا.. تغريه دائماً بأن يمد يده إلى تفاحة الأزل.. ويطيعها هو رغم ادعائه أنه (لا تفرق معه)، ربما يبدو مقاوماً كما فعل نجمنا وصاح في المرأة الشابة المستفزة: "ليه أصلاً بدك تصوريني لَإلي، بين كل شيء عم يصير بها الدنيا، والعالم الموجودة؛ ليه ما بتصوريهم إلن".. هل قال فعلاً: "العالم الموجودة"؟ يعني هل لا يعتبر نفسه موجوداً في الدنيا؟! ربما يكون هذا التصور ما جعله يتوهم أو يوهم نفسه أن عزلته تلك جنة، وأنه ارتقى فوق الأحداث العادية، أو الحوادث والصدمات اليومية.. ارتقى فوق "كل شيء عم يصير بها الدنيا"، وارتفع عن كل "العالم الموجودة"، لكن المخرجة الشابة، الأنثى المتمردة، المرأة الفضولية.. حواء؛ تأبى إلى أن تصدمه بالحقيقة.. تخبره أنه مازال بين الناس.. وتغريه أنه أكبر من جملته العالقة في أذهانهم.. هل صدقها هو؟! هو يصدقها دون أن تتكلم، إنه فقط يعيش حالة من محاولة الإنكار.. إنكار الذات.. إنكار أهمية الأشياء.. إنكار جدوى الحياة.. أو أنها تفرق عن عيشته العادية في زاويته المنعزلة، وطعامه الذي يأكله وحيداً.. يثور عليها، وتقرر الرحيل، بعدما حركت الماء، وسقت شجرته اليابسة منذ سنين.. أن يورق فرع يابس بعد كل هذا العمر، ليس أمراً هيناً.. لكن الحياة دائما كامنة في كل جذع مهما بلغ يبساً وبؤساً.. ولأنها تعرف ذلك ظلت مؤرقة تجلس وحيدة.. جلسة صيفية عند حافة نافذة تطل من الظلام رغم ضوء النهار الموجود بالخارج.. تتذكر كيف صحبته لاكتشاف ذاته.. لاكتشاف أن الجلطة التي أصابته، وأوهنت يده لن تمنعه من تحريك أصابعه والدق على أمشاط البيانو.. "بعد الجلطة ما عاد فيني أحرك أصابيعي منيح".. يقول هو ذلك بائساً؛ فتجيبه هي: "الأول بده يكون بدك؛ بعدين بيصير فيك". تذكر ذلك فتقرر أن تعود أدراجها إلى معركة الوجود.. حواء تصر دائماً أن تصحب آدم إلى الأرض سواء قبل أو تمنع؛ فهي تعرف أنه لن يستغني عنها أبداً، ولأن المرأة دائماً صاحبة حدْث سابق.. تحمل له المناقيش.. فهو الرجل الذي يأكل وحيداً، وتريد هي أن يأكلا معاً. لأنه من وجهة نظرها مَن "يأكل لحاله؛ يموت لحاله"، فتحذره: "بس انتبه إذا متنا بنموت سوا". لا يكترث الرجل بالتحذير، فقد انبعثت لتوها الحياة في وجوده من جديد، لقد بدأ كتابة مسرحية جديدة.. كتب كلمات لتكون مطلع مسرحيته.. رغم الحزن الذي يغلف تلاوته للنص، لكن النص مفعم بادعاء الأمل: "نحنا وصغار.. بعد بكير ولما نكبر ونروح.. بيقولوا فـَـل بكير بعد الصيف بييجي الخريف، مع إنه على طول.. بس بيقولوا سقعت بكير بكرة جاي.. خلينا سهرانين، وعلى شو مستعجل.. بعد بكير ولما نزعل.. بكير ولما نخجل.. بكير وحتى ع الحب.. بكير كل شيء له وقته، إلا الوقت ذاته بيضل بكير" هكذا تنبلج العلاقة من جديد بين الرجل والحياة.. الحياة التي ظلت كامنة طويلاً ثم انبعثت من جديد.. هكذا بدت.. كانت يابسة فجاءت الفتاة لتسقيها.. تسقيها كثيراً.. لكن يبدو أنها رشفات النهاية.. تصير كما يقول التعليق.. وحلاً.. يتحسر صوت الراوية وهي تقول: "بدل ما تفيدها بتنزعها".. هي حسرة ما بعد الفقد.. لكن هل كانت الأشياء اليابسة، لو ظلت يابسة؛ لتعيش إلى الأبد؟! تدخل الفتاة التي لم نعرف اسمها لتجد نجمها الذي أحيته من اليبس جامداً في لحظة اجتمعت فيها حياته كلها، غرفة المسرح التي شهدت مجده، يده على المكياج.. يستعد للحياة، فينتقل إلى حياة أخرى.. تناديه للمرة الأولى باسمه فنلاحظ أن الأسماء كانت لا تعني شيئاً طوال الفيلم، لكن في هذه اللحظة تصبح ذات أهمية.. تذكرنا بنص قديم: "أعد إلى الذاكرة اسمي يوم أن تحصى السنين"، ويعود الاسم للذاكرة يتحدث العالم عن الرجل.. اسمه في نشرات الأخبار، وصورته تبقى.. كما جاء على لسانه أول حواره مع المخرجة الشابة: "يمكن أكون خلصت، لكن فعليا ما بكون خلصت لأني بكون بقلب الكاميرا على طول".