امرأة تنتظر نتيجة التحاليل لمعرفة حقيقة إصابتها بالسرطان .. جملة قد تبدو غير لافتة لأي منتج سينمائي يريد إنتاج فيلم يشبه مرحلة الستينات .. لكن عند الاقتراب من حكاية كليو نجد أن قصتها ليست بهذا التصور النمطي. الفيلم من إخراج الراحلة أنياس فاردا، وإنتاج سنة ١٩٦٢. كليو، أو كليوباترا، بطلة شقراء ملامحها تقترب من بطلات هيتشكوك المفضلات، الـ Icy blondes، وممثلات الـ Film Noir، لكنها لا تتجول بنا في شوارع باريس من أجل البحث عن قاتل أو فك شفرة جريمة، بل تغوص بنا داخل أعماقها، وتتساءل عن قيمة ملامحها الفاتنة في مقابل روحها المشتتة في الصراع مع مادية المجتمع. نعيش معها رحلة مركبة مدتها ساعة ونصف من الانفصال عن الواقع بشكل واقعي للغاية. أول ما يُلاحظ في الفيلم، التعبيرية عن الانفصال. ضمن أولى المشاهد في الفيلم، مشهد جلوس كليو في أحد المقاهي وإلى جانبها حبيبان يتجادلان، حيث رسمت فاردا خطًا فاصلًا بحدود المرآة يؤسس لعالم كليو المنفصل، والذي يمتلئ بالبشر، لكنه لا يملأ الفراغ الروحي الذي تعيشه. هذا المشهد التأسيسي ستكتمل تعبيريته خلال أحداث الفيلم.
واقعية فاردا
أنياس فاردا تنتمي لفئة المخرجين المؤلفين (Auteurs) في تاريخ السينما. ومن بين المؤلفين المخرجين، رواد سينما الواقعية الجديدة في إيطاليا وكذلك مؤسسي الموجة الفرنسية الجديدة. استطاعت فاردا أن تغزل حكاية في غاية البساطة، مما أضفى عليها شاعرية، وفي نفس الوقت خلق رُوحـًا واقعية تميل أكثر لنموذج الواقعية الاجتماعية التي تُظهر حياة الفرنسيين في فترة زمنية مرتبكة، تواجه فيها الجمهورية الديجولية الخامسة أزمة كبرى، تتمثل في الثورة الجزائرية ومقاومة شرسة من أبناء الصحراء. الاحتلال الفرنسي للجزائر والثورة الجزائرية أثرا على الفرنسيين بشكل واضح، وكان لكثير من الفنانين الفرنسيين موقف رافض لاحتلال فرنسا للجزائر، ومن بينهم فاردا، التي كانت ضمن مجموعة سينمائية أطلقت على نفسها (مجموعة سينما الضفة الشمالية أو Cinema of the Left Bank Group) مع آلان رينيه وكريس ماركر. وقد كان لهذه المجموعة السينمائية توجهات واضحة ضد قضايا الحرب، وطرح أسئلة تتعلق بالذاكرة والتاريخ والزمن، وهي أفكار تتشابه بشكل ما مع السيريالية التي عانى روادها من آثار الحرب العالمية الأولى ورفضوا العنف الذي أتت به>
هذه الواقعية الاجتماعية لم تكن لُب حكاية الفيلم، لكنها تلامست بقوة مع قصة كليو، فنشرة الأخبار داخل التاكسي، فتحت بابـًا واسعـًا يقدم لنا الواقع الفرنسي دون تدخل كبير من مخرجة العمل. كما أن نظرات الجمهور للكاميرا كسرت هذا الشكل التقليدي للفيلم الروائي، وجعلته يقترب من الحالة التسجيلية التي تميزت بها فاردا، وخاصة في لحظات تصويرها شوارع العاصمة الفرنسية. الفيلم مثل حالة فنية تقترب في بعض مشاهدها من أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة، حيث التصوير في الشوارع دون اللجوء لاستوديو، لكن حكاية كليو تُقدم من وجهة نظر امرأة شابة تعبر عن الجيل الجديد المتحرر في فرنسا، وليس جيل الحرب العالمية الثانية كما في أفلام السينما الإيطالية. وتُلحظ هذه الواقعية بشكل متكرر في لقطات تصوير الشوارع التي كثيرًا ما كان ينظر فيها المارين لبطلة الفيلم. فـ Corinne Marchand أو كليو، لم تكن نجمة سينمائية مشهورة، إذ أدت عددًا محدودًا من الأدوار السينمائية قبل البطولة المطلقة في فيلم فاردا. وهذا يقترب من نفس الأسلوب الفني الذي اتبعه مخرجو الواقعية الإيطالية مع كثير من أبطالهم. ولعل أشهر نموذج لممثلة إيطالية كان أنا مانياني في فيلمها (روما مدينة مفتوحة)، الذي فتح لها باب الشهرة، فأفلامها منذ العشرينات لم تصنع منها نجمة محفورة ملامحها في أذهان الجمهور. واقعية أنياس فاردا في هذا الفيلم ليست مثل واقعية مخرجين إيطاليين مثل دي سيكا وروسيلليني، لكنها واقعية تتقاطع مع مساحة ذاتية جدًا، الشباب مركزها، وهم إحدى سمات الموجة الفرنسية الجديدة، التي اقتربت فاردا من مؤسسيها. ولعل ظهور المخرج جان لوك جودار في الفيلم، وتمثيله لمشهد الفيلم الصامت قد يكون دليلًا على هذا التضامن الذي كان يحاول المنتمون لهذا الجيل تحقيقه من خلال دعم بعضهم بعضــًا في صناعة الأفلام. كذلك يتأكد هذا الدعم مع ظهور أحد رواد الموسيقى التصويرية الفرنسية في السينما، ميشيل ليجراند، وأدائه لدور عازف البيانو وهو أحد المتعاونين مع جودار والمخرج جاك ديمي في أكثر من عمل فني. أحد الأشياء التي لاحظتها في واحد من مشاهد الفيلم، هي ظهور أحد مصوري الفيلم في المرآة، وهذا الأمر أثار لدي تساؤلات عديدة تتعلق بمدى تصالح مخرجي الموجة الفرنسية مع مثل هذه الأمور، وهل تعد أخطاءً في عُرفهم إذا ما قورنت بأعمال سينمائية أخرى قدست حركة الكاميرا والحفاظ على شكل الصورة؟سوريالية بونويل وتعبيرية ألمانية ومن أبرز سمات الفيلم هو الميل للسيريالية، وإن لم يكن بشكل مباشر يتعلق باللاوعي أو الأحلام، لكنه ظهر مثلًا في إشارات واضحة لفيلم لويس بونويل الشهير (كلب أندلسي)، الذي ظهر ملصقه الدعائي في أحد مشاهد الفيلم، ثم تلاه مشهد تدور أحداثه في غرفة كليو، التي ذكرتني كثيرًا بالغرفة الموجودة في فيلم بونويل. ومشهد كليو في غرفتها مع عازف البيانو ومؤلف كلمات الأغاني أبرز نفس الصراع بين الذكورة والأنوثة مثلما حدث في فيلم بونويل. فالنظر للبطلة في فيلم بونويل كان يدور في نفس الفلك، مجرد أداة أو شيء يشبع فحولة الذكر، مثل كليو التي ينظر إليها الرجال كشيء جميل وممتع لا يمتلك عقلًا.
وربما ظهرت السيريالية في الفيلم مرة ثانية خلال مشاهد الفيلم الصامت الذي أداه جودار، ويعكس حكاية كليو بشكل تنبؤي، حيث رؤيتها لذاتها وعالمها، وذلك التباين الواضح بين الأبيض والأسود خلال أحداث المشهد. وكأن الفيلم الصامت القصير يعيد بناء حياة كليو وتصوراتها عنها، مثل حلم، لكنها تعيشه في الواقع. وقد تماس الفيلم مع المدرسة التعبيرية بشكل أو آخر، في بعض التكوينات البصرية، خاصة في اللحظات التي تحولت فيها الشخصية، وارتدت اللون الأسود بعد أن كانت ترتدي اللون الأبيض في النصف الأول من الفيلم، واختلاف الخلفيات وراءها من الأسود إلى الأبيض؛ لإيضاح التباين الذي حدث في شخصية كليو، مع خفوت الإضاءة على وجهها بعد أن كانت حادة تبرز وجهها الملائكي الساذج المدلل. والتعبيرية في الفيلم تكتمل في أحد المشاهد التي تبُرز الصراع الداخلي لدى كليو، فصورتها المكتملة والبهية أمام المرآة في بداية الفيلم، تتكسر بعد مرور ساعة من الأحداث، وبعد ذلك تحاول أن ترى حياتها من جديد بعدما تحررت من صورتها الأولى عن نفسها.فاردا والنسوية أنياس فاردا، واحدة من المخرجات القليلات في تاريخ السينما التي برز صوتها النسوي في أفلامها بطريقة متميزة على المستوى الجمالي والفكري، حيث كان إنتاجها الإبداعي سواء من خلال التصوير الفوتوغرافي أو الأفلام التسجيلية والأفلام الروائية داعمـًا للنساء، خاصة بعد انضمامها للحركة النسوية، ومعاصرتها للأفكار التحررية التي حكمت العالم في مرحلة الستينات، حيث ميلاد الحركة النسوية الثانية، وحركات التحرر من الاستعمار في العالم، وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة بقيادة مارتن لوثر كنج، وثورة الطلاب في عام ١٩٦٨ بعد ذلك، بالتوازي مع حرب فيتنام، التي ضلعت الولايات المتحدة فيها بشكل كبير داعمة الجنوب، وتقديم الصين والاتحاد السوفيتي الدعم للشمال .. كلها أحداث ضخمة وشديدة التكثيف في عقد الستينات لا يمكن تنحيتها عن السياق الذي صنعت فيه فاردا أفلامها. فقد صنعت فيلمـًا تسجيليـًا قصيرًا عن حرب فيتنام بعنوان Loin de Vietnam، بالتعاون مع ستة مخرجين آخرين ينتمون لنفس التيار الفكري مثل جودار ورينيه وليلوش وماركر. كذلك، فقد تزوجت فاردا من أحد الأسماء الشهيرة في الموجة الفرنسية الجديدة، جاك ديمي، في نفس العقد، إلا أنها لم تتشابه مع زوجها في صناعة الأفلام، فديمي اهتم بالأفلام الموسيقية الغنائية، أما فاردا فانصب اهتمامها بالأفلام التجريبية. هذا السياق التاريخي يوضح اهتمام فاردا بمواضيع مثل التاريخ والتوثيق والزمن وأثرهم على البشر، وهذا ما ظهر في تفاصيل فيلم كليو. الزمن يمثل أهم عنصر في الفيلم -وهو كذلك أحد الملامح الأساسية في السيريالية التي تهتم بالزمن والذاكرة- فكليو التي كان ينظر إليها الجميع لجمالها الآخاذ، كانت تسير في الشوارع وتحاول التدقيق في ملامح البشر حولها، وكأنها تحاول أن تحفر أشكالهم في عقلها قبل أن تعلم حقيقة مرضها المميت. الفيلم تقع أحداثه في ساعة ونصف من حياة كليو، ومدة الفيلم الذي نشاهده ساعة ونصف أيضـًا. شكل فني قدمه عدد من صناع السينما، مثل هيتشكوك في فيلمه Robe، وفيلم High noon إخراج فريد زينيمان. شكل يبرز مدى قدرة الفنان على سرد حكاية تقع أحداثها في نفس مدة الزمن الحقيقي/الفعلي لعرض الفيلم نفسه. فكرة شديدة الإثارة للذهن، وتطرح الكثير من التساؤلات حول التجريب الذي قد يمارسه صانع الفيلم، وإلى أي مدى يمكن من خلال هذا التجريب أن تتكون قصة واضحة المعالم للمشاهدين؟ والتجريب يعد أحد العناصر المهمة في السيريالية، التي يمكن القول إنها تماست مع فيلم فاردا.
معضلة الزمن في الفيلم وقد كان الزمن في الفيلم تعبيريـًا رغم واقعيته، إذ انقسم إلى ١٣ فصلًا قصيرًا من حياة كليو، الفصل تراوح ما بين الدقائق الثلاث أو الخمس أو السبعة حتى وصل الفصل الختامي لخمس عشرة دقيقة. لماذا لم تختر فاردا ١٢ فصلًا مثلًا؟ إن للرقم ١٣ دلالة ثقافية وتعبيرية تتعلق بالموت. فحبل المشنقة الذي كان يُعلَق فيه الجناة مكون من ١٣ عقدة، والهدف من صناعة هذا العدد من العُقد هو إحكام الربطة كي لا يفلت الجاني. كذلك فالرقم ١٣ يعبر عن الموت في الثقافة الدينية المسيحية، إذ يُروى أن العشاء الأخير للسيد المسيح حضره يهوذا الإسخريوطي، الضيف رقم ١٣، الذي كان سببـًا في صلب المسيح وقد شنق يهوذا نفسه بعد خيانته. والرقم ١٣ عمومـًا يرتبط بمعاني الشؤم لأنه يأتي بعد رقم يمثل الكمال بالنسبة لكثيرين، فرقم ١٢ يعني اكتمال السنة، والدستة أو الدوزينة Dozen هي المعنى الثقافي الذي نرى فيه اكتمال الأشياء التي نشتريها. الزمن في الفيلم، ارتبط ارتباطـًا وثيقـًا بحكايات الأحياء الباريسية التي تتجول فيها كليو، إذ ترسم لنا فاردا فيلمــًا عن المدينة بعيونها وعيون كليو، فنشاهد تناقضات الموت والحياة من أخبار حرب الجزائر والجندي أنطوان الذي يسافر للمشاركة في الحرب، أو زميلة كليو التي يمثل جسدها الحياة، فتعمل موديل للنحاتين. ولأن الزمن كان مركزيـًا في الأحداث، فقد سمعناه في بداية الفيلم من خلال صوت حركات العقارب، ثم صورة المنبه خلف كليو في أول تتابع بالفيلم. ثم شاهدناه من خلال الساعة في وسط أحد الشوارع، ليعود بنا الفيلم إلى علاقة كل هذه الإشارات الخاصة بالزمن للسيريالية، ويُذكرنا بعمل سلفادور دالي الخالد عن مقاومة الزمن والذاكرة. وكليو ليست بعيدة الصفات عن الزمن الذي تصارعه، فقد تكرر وصفها أكثر من مرة بأنها متقلبة المزاج (Capricious)، ليس لها وضع ثابت وكأنها تمثيل للزمن نفسه في تقلباته المفاجئة وغير المحسوبة.الفيلم يطرح سؤالًا كبيرًا حول مفهوم الواقعية والحقيقة من خلال الزمن، فنحن نعيش الساعة ونصف سينمائيـًا وزمنيـًا، لكننا نعلم في النهاية أن ما يحدث ليس حقيقيـًا، والدليل على ذلك، قفزات المونتاج التي كانت تحدث من حين لآخر خلال أحداث الفيلم.
ثنائية الحياة والموت إحدى المعلومات الطريفة التي قرأتها عن عنوان الفيلم، تعكس جزءًا من الثقافة الفرنسية بشكل عام، والسينمائية بشكل خاص، تجاه قضايا الجنس. ففي الواقعية الشعرية مثلًا، تناقش الأفلام علاقة الرجال بالنساء ومغامراتهم معـًا، وأبرز مثال شاهدته يعبر عن هذا الشكل من العلاقات، فيلم The Rules of the game للمخرج جان رينوار. وتشير المعلومة الخاصة بالعنوان إلى الفترة من ٥ لـ٧، وهي التوقيت اليومي للقاء بين الرجال والنساء في فرنسا لممارسة علاقة جنسية بعد الانتهاء من العمل. رمزية ثقافية يفهمها الفرنسيون(3) عندما يقال: la cinq à sept. ويظهر هذا المعنى في الفيلم عندما يأتي حبيب كليو إلى منزلها، ويحاول مداعبتها لممارسة الجنس لكنها تخبره بأنها مريضة، فيرحل. فاردا هنا تضرب عرض الحائط بأحد الملامح الثقافية في فرنسا، وتواجهها بشكل غرائبي مضاد، تمر فيه البطلة بأزمة كبرى قد تصل للموت، فنتحرك معها من توقع قمة المتعة (الجنس)، إلى الانغماس في قاع الألم (الموت). هذا التباين الفكري برز خلال استخدام فاردا للألوان في أول مشهد بالفيلم خلال لقطات محددة جدًا، وكأنها تقدم لكليو المستقبل، وكذلك المشاهدين، من خلال بطاقات التاروت التي تفسرها العرافة، مما جعل للقطات معاني أكثر دلالة مع الألوان، مما ذكرني بالحديث حول تلوين بعض اللقطات في مشاهد الأفلام الصامتة في أول القرن العشرين لتحقيق قدر من الإبهار لدى المشاهدين مثلما فعل جورج ميليه في بعض أفلامه أو كما حدث في فيلم The great train robbery إخراج إدوين بورتر.الموت يُعد الثيمة الرئيسية للفيلم، وهو ليس موتــًا فرديـًا يعبر عن حكاية كليو، لكنه تمثيل لكثير من البشر الممزقين في مرحلة عالمية مأزومة ربما نعيشها الآن.