تعد العلاقة بين السينما والرواية علاقة تبادلية، فمثلما تمنح الرواية للسينما الحكاية، تقوم السينما بإحياء هذه الحكاية وتجسيدها لتخرج من حيز العالم المجرد إلى عالم ينبض بالحياة، وتقدم إلى عدد أكبر من الجمهور فيتحقق لها الشهرة والإنتشار، وهذا ما حدث في العديد من الروايات سواء العالمية أو العربية. وقد وصل الحال في بعض الأحيان إلى تكوين ثنائيات تجمع ما بين الروائي والمخرج، مثلما حدث بين المخرج "مروان حامد" والروائي "أحمد مراد"، حيث قدم هذا الثنائي العديد من الأعمال مثل (الفيل الأزرق بجزئية ،الأصليين، وتراب الماس) وفيلم (كيرة والجن) المأخوذ عن رواية 1919 ل "أحمد مراد"، ورغم أن (كيرة والجن) هو التعاون الخامس بينهما، ولكنه يختلف عن سابقة أعمالهما، فهذه المرة يوجد عنصر جديد على قدر كبير من الأهمية والتأثير وهو التاريخ، هذا العنصر الذي أدى إلى خلق عالماً جذاباً قام فيه صناع العمل بإعادة إحياء بعض الشخصيات التاريخية والأبطال المنسيون مثل الطبيب "أحمد عبد الحي كيرة" والذي جسد شخصيته الفنان "كريم عبد العزيز"، وشخصية "عبد القادر شحاتة" الشهير بالجن والذي جسد شخصيته الفنان "أحمد عز"، وشهيدة النضال السيدة "دولت فهمي"، وشخصية "محمد نجيب الهلباوي" والذي اشتهر باسم يهوذا المصري، والذي قام الفنان "سيد رجب" بتجسيد شخصيته، بالإضافة إلى بعض الشخصيات والأحداث الأخرى من وحي خيال المؤلف، وأدى هذا المزج إلى خلق عالم يجمع ما بين الواقع والخيال، وهي الجملة التي كتبت على الشاشة في الدقائق الأولى للعمل والتي كانت تنص على أن: ( هذا الفيلم مبني على خيال مستوحى من أحداث حقيقية، وهو لا يعد وثيقة تاريخية)
وهذا تجنباً لإثارة الجدل المعتاد والذي يصل في كثير من الأجيان لحالة من الهجوم وإلقاء الإتهامات بتزوير التاريخ، رغم أن الأعمال الروائية تقوم في الأساس على الخيال، وهذا على عكس الأعمال الوثائقية التي تستند إلى الحقائق وتعتمد على المصادر التاريخية.
قصة العمل وتوثيقة لبعض الأحداث التاريخية الهامة:
يبدأ الفيلم بمشهد تأسيسي عن مذبحة دنشواي عام 1906، والتي ستكون دافعاُ أساسياً لتكوين شخصية أحد أبطال العمل "أحمد كيرة" بعد أن قُتل والدة أمام عينية، فأصبح فيما بعد قائداً لتنظيم سري يقوم بعمليات إغتيال ضد الإستعمار البريطاني، ثم تتحرك الأحداث وينتقل الفيلم إلى توثق بعض الأحداث التاريخية التي وقعت إبان فترة الإحتلال وراح ضحيتها المئات من المصريين على يد جنود الإحتلال، مثل إنطلاق ثورة 1919، ومجزرة مسجد الحسين في 14 مارس من نفس العام، والتي قام فيها الإحتلال بقتل وإصابة عدد من المصلين، ثم مذبحة قرية ميت القرشي وضربها بطائرتين حربيتين لتفريق المتظاهرين في 23 و 24 من مارس، وصولاً إلى الجانب السعيد من الأحداث وهو نهاية الإستعمار وجلاء أخر جندي بريطاني عن مصر في 18 يونيو عام 1956.
وتدور أحداث الفيلم حول خلية سرية يقودها الطبيب "أحمد كيرة"، حيث تقوم ببعض العمليات الفدائية ضد قادة جيش الإستعمار البريطاني، ويركز الفيلم على حدث هام وهو إنفجار ثورة 1919 وتداعياتها، وكفاح الشعب المصري ضد المستعمر البريطاني على المستويين السلمي والمسلح.
الوطنية ليست حكراَ على أحد
ركز العمل على إبراز النسيج الوطني بمختلف تياراته، فظهرت مجموعة الفدائيين على أنهم مجموعة من الأفراد من خلفيات ثقافية ودينية، وطبقات إجتماعية مختلفة، ولكنهم اجتمعوا على حب الوطن، فمنهم المسيحي، واليهودي، والطبيب، والعامل البسيط، والفقير وإبن الذوات، والمصري والخواجة، فهذا النسيج الوطني المتنوع كل فرد فيه على استعداد لتقديم روحة فداء للوطن، وتأكيداً على صدق الهتاف الشهير في هذا الوقت (نموت نموت وتحيا مصر)
قراءة في فيلم كيرة والجن
رغم أن إنتاج الأعمال التاريخية يعد مجازفة كبيرة، ولكن هذا العمل كان متوقع له النجاح المسبق بسبب توفر مقومات نجاح عديدة، بداية من الإنتاج الضخم، مروراً بإختيار أبطال من نجوم الصف الأول الأكثر شهرة وجماهيرية، وصولاً لفريق العمل الذي يضم العديد من الأسماء اللامعة في مجالها سواء على مستوى الكتابة، التصوير والإضاءة، الموسيقى، الديكور، الصوت، الملابس، تصميم المعارك، المونتاج، والمؤثرات البصرية وغيرها، وعلى رأسهم مخرج متميز مثل "مروان حامد"، والذي يمتلك سمات إسلوبية معينة استطاع من خلالها أن يحقق المعادلة الصعبة في الموازنة بين الجدية والترفية، وكان هذا واضحاً في الأعمال التي برز إسمه بواسطتها، مثل فيلم (عمارة يعقوبيان)، و(إبراهيم الأبيض)، حيث تجلت حرفية "مروان حامد" من خلال هذه الأعمال في إمكانياته العالية في تطويع السرد لخدمة الدراما، بنفس القدر من الحرفية التي يستطيع بها تطويع وإدارة المجاميع البشرية، وهذا عكس ما حدث في فيلم (كيرة والجن)، حيث أعطى المخرج الأولوية لتطويع عناصر الإبهار لجذب الجماهير، وأيضاً تركيز العمل بصورة أكبر على شخصيتي كيرة والجن، وظهور بعض الشخصيات الأخرى كأنها شخصيات فرعية في بعض الأحيان مقارنة بهما، حتى أن موت أو إختفاء بعض هذه الشخصيات لم يكن مؤثراً بالقدر الكافي. ولكن من أكثر الأشياء المميزة في هذا الجزء، تطور قدرة المخرج "مروان حامد" على تطويع وإدارة المجاميع من جهة، والطريقة التي ظهرت بها العلاقة بين البطلين "كيرة والجن" من جهة أخرى، والتي قامت على إبراز التناقض والتضاد بينهما، فالتضاد يبرز الصراع ويحرك الأحداث، ويخلق المفارقة التي تصنع الكوميديا في بعض المواقف، ورغم هذا التضاد ولكن كانت الدوافع واحده لهما، وهي الانتقام من الإحتلال البريطاني الذي تسبب في قتل والد كل منهما.
وفي المقابل تم اللجوء إلى الصدف الدرامية في الكثير من الأحيان بداية من اللقاء الأول بين "أحمد كيرة" و" عبد القادر الجن" أثناء محاولة كل منهما إغتيال الكولونيل "دوغلاس"، مروراً بالصدفة التي جمعت بين "كيرة" و"إيميلي"، وموت "زينب" زوجة "أحمد كيرة" والتي جسدت شخصيتها الفنانة "روبي" ببراعة في مشاهد محدودة لإفساح المجال لولادة قصة من قصص الحب المستحيل بين "كيرة" و"إيميلي، وعلى غرار قصص الحب بين "عيسى العوام"، و"لويزا" في فيلم الناصر صلاح الدين الأيوبي، وقصة روميو وجولييت.
بين الواقع والتوقع
يعد فيلم كيرة والجن العمل الأضخم على مستوى الإنتاج في تاريخ السينما المصرية، وقد سبق الفيلم دعاية ضخمة أدت إلى رفع سقف توقع الجمهور، وأدى هذا إلى الإنقسام في وجهات النظر حول هذا العمل، فرأى البعض أن الواقع لم يكن بقدر التوقع، ورأى البعض الأخر العكس، وبالعودة للجانب الفني من العمل، فرغم وجود فجوة بين لحظات الذروة والتصاعد والصراع، كما أن الايقاع كان يسير على نحو بطيء أحياناً، ثم يتجه إلى السرعة ويعود للبطيء مرة أخرى، مع وجود تلك القفزات الدرامية التي كان لها تأثير سلبي على سيمترية القصة، فكل هذه العوامل قد تؤدي إلى الملل أثناء المشاهدة في بعض الأحيان، ولكن يعد فيلم (كيرة والجن) عمل جماهيري ناجح خاصة على مستوى الإيرادات...ولكن هل سيكتب له الخلود؟ هذا ما ستكشفة الأيام لنا ...