في عالم الخيال والقصص الأسطورية، اشتهر بروميثيوس في الميثولوجيا الإغريقية بالعديد من القصص والمعارك التي شارك بها، ولعل قصته الأشهر هي سرقته للنار من جبل أوليبموس حتى يُساعد البشر خلال شتاء الأرض البارد، وسريعًا صار منبوذًا بين الملوك الغاضبة التي نست كل ما فعله من أجلهم؛ فلعنته وقيدته بصخرة كبيرة على ظهره وظل في منفاه مع العذاب الأبدي. ربما استغل البشر النار للنجاة، وربما استغلوها أيضًا في صراعاتهم الشريرة، ولكن ظل دائمًا بروميثيوس في حريته ومنفاه الأب الروحي للنار على الأرض، أو ربما للقنبلة الذرية!.
تدور أحداث فيلم "Oppenheimer" حول قصة العالم الشهير روبرت أوبنهايمر، ودوره في تطوير القنبلة الذرية خلال مشروع مانهاتن، وهي الخطوة التي كانت أشبه ببروميثيوس وسرقته للنار، فقدم روبرت للشعب الأمريكي سلاحًا قد يضمن لهم البقاء على قمة العالم والانتصار في الحرب، ويضمن لهم إنقاذ ما يقرب من المليون جندي بالجيش الأمريكي، وربما يضمن لهم في النهاية تدمير العالم برمته!. عادة ما اقتبس مخرج العمل كريستوفر نولان الكثير من رمزيات الميثولوجيا في أعماله، مثل القديس لعازر في "Interstellar" وفكرة عودة البشرية من الفناء والموت على الأرض إلى الحياة خارجها، ومثل دايدالوس والذي بنى متاهة إغريقية شهيرة ومعقدة أشبه بعالم الأحلام في "Inception"، عناصر وصور يُجيد نولان توظيفها في قصته والبناء عليها، وهي الطريقة التي استطاع من خلالها عرض قصة تاريخية حدثت بالفعل في قالب من التشويق والأحداث السريعة.
أجاد العمل في تقديم شخصية أوبنهايمر منذ البداية وحتى النهاية بشكل يُعد هو الأفضل منذ رائعة ستيفن سبيلبرج "Lincoln" في عالم أعمال السيرة الذاتية، فيبقى أوبنهايمر هو الشخصية المُسيطرة على أغلب مشاهد العمل، وعبر عدة فصول كانت بدايتها من شخصيتنا الرئيسية والتي تسعى لإثبات أهمية الفيزياء النظرية، وصولًا إلى فصل مشروع مانهاتن ومحاولة تصنيع القنبلة الذرية في أسرع وقت، وصولًا إلى فصلنا الأخير بمشاهد الاستجواب والتحقيق، وهي سلسلة من اللمحات الموفقة من مخرج العمل للحفاظ على العمل بعيدًا عن الرتابة.
كادرات العمل وصلت إلى حد الجنون والرعب في الكثير من الأحيان، وأذكر مشهد ضمن مشاهد الاستجواب في الفصل الأخير من العمل، عبر فقط مجموعة من الكشافات والإضاءة القوية، وضع نولان المُشاهد في حالة من التوتر والرعب، وهو في الواقع عنصر متواجد منذ بداية العمل وفي الكثير من اللقطات، فالرعب الدرامي هو تصنيف نفسي يستطيع التلاعب بأعصاب المشاهد عبر قصة تميل إلى الدرامة في الأساس.
في صباح 16 يوليو عام 1945، نفذ أوبنهايمر وعلماء مشروع مانهاتن تجربتهم النووية الأولى"ترينتي" والتي استلهم اسمها أوبنهايمر من خلال أحد قصائد الشاعر الإنجليزي جون دون، فكانت التجربة الأولى لتفجير سلاح نووي عبر صحراء خورنادا ديل مويرتو، ويُعد هذا المشهد ضمن أحداث العمل هو واحد من ضمن أفضل المشاهد التي رأيتها على الإطلاق، من خلال روعة الأداءات التمثيلية التي تركزت في كيليان مورفي ومات ديمون، والإضاءة والمؤثرات الطبيعية الموفقة، والتي تتلاعب بالمشاهد بين الرعب والتوتر والإنبهار في آن واحد.
تهرب نولان من تجسيد لحظة إطلاق القنبلتين على اليابان، ليس بسبب قراره بعد استخدام المؤثرات البصرية في العمل، ولكن رغبة في إظهار مدى انفصال أوبنهايمر عن الواقع في هذه اللحظة، وعجزه خلال ذلك عن تجاهل الكم الهائل من الندم، فهي لحظة فارقة في حياة العالم الفيزيائي الشهير، والتي حولته إلى بطل أمريكي، ومجرم حرب، والموت متُجسدا. كما تهرب نولان من فكرة إبداء الرأي أو تقييم شخصية أوبنهايمر أمام المُشاهد، وترك الأمر للأخير للحكم على هذه الشخصية من خلال جوانبها التي تجلت على الشاشة.
قدم روبرت داوني جونيور أداء ملفتًا للنظر من خلال شخصية لويس ستراوس وزير التجارة الأمريكي الأسبق والذي كان قياديًا أيضًا في هيئة الطاقة الذرية الأمريكية، فحملت شخصيته العديد من التقلبات والتحولات الغير متوقعة في سياق أحداث العمل. مات ديمون كان اسمًا لامعًا واختيارًا موفقًا بشخصية ليزلي جروفز والذي سعى خلال الأحداث لفرض سيطرته الأمنية على منطقة لوس ألموس، وعجز عن إخفاء مخاوفه من نتائج التجربة. إيميلي بلانت كعادتها جسدت الجانب التمثيلي النسائي المميز بشخصية كيلي أوبنهايمر، وهي الشخصية التي وقفت أمام الجميع في سبيل حماية سمعة ومهنة زوجها من المساس.
ومن ضمن المشاهد التي تم إخراجها بشكل كسول قليلًا، مشهد شخصية ديفيد هيل التي يُجسدها رامي مالك، فكان مشهد المحاكمة وكشف توجهات شخصية لويس ستراوس سريع وغير مكتمل، واحتاج إضافة المزيد من التفاصيل والأدلة حتى يصبح نقطة تحول في صالح أطراف المحاكمة. وفي الأخير عيوب العمل تظل نقطة في بحر كبير من المميزات والهدايا الجيدة من صناعه.
"Oppenheimer" هو التجربة الأكثر نضجًا وشجاعة في مسيرة نولان المليئة بالأعمال المميزة والناجحة، ويحمل الكثير من المكافآت لأولئك الذين انتظروه أكثر من عامين، وعلى الرغم من طول مدته الزمنية إلا أنه حمل الكثير من الحوارات المميزة والأحداث المشوقة؛ التي قد لا تُرضي محبي أفلام التشويق بشكل عام، فنحن هنا لا نتحدث عن عمل تشويقي يُشبه "Inception" و"Interstellar" وربما لا يُشبه أي من أعمال المخرج السابقة، ولكننا نتحدث عن عمل درامي بحت يتخلله التشويق، ويُطلق العنان للمشاهد بالتفكير في أحداث التاريخ وما أصبح عليه عالمنا الآن بعد نظريات كُتبت على ورق وقرار بسيط بالضغط على زر قنبلة مُميتة.