كلنا نعرف أن الحياة الداخلية للشخصيات، وخاصة فترة المراهقة، تكون غالبا موضوع انبهار، وذو أهمية كبيرة للجمهور. وينبع هذا الانبهار من الاعتقاد بأن هذه الفترة من الحياة حاسمة في تشكيل هوية الفرد ومستقبله، وإن فهم الأعمال الداخلية لهذه الشخصيات يمكن أن يوفر رؤى قيمة للتجربة الإنسانية فيما بعد.
ومن خلال سيناريو محكم كتبه كلا من سامي بورش، وأليكس ميشانيك، واستنادًا بشكل فضفاض إلى فضيحة الصحف الشعبية لماري كاي ليتورنو عام 1996، التي قضت عقوبة السجن بتهمة الاغتصاب عندما كانت تبلغ من العمر 35 عامًا، وعندما تم الإعلان عن علاقتها الجنسية مع صبي يبلغ من العمر 12 عامً، قدما أحداثًا مثيرة ومفاجئة تجعل المشاهد يشعر بالتوتر والقلق، لإيصال الأجواء المزعجة والمرعبة من القصة، لسنستكشف تداعياتها على الشخصيات والعالم المحيط بها، ونركز على التأثيرات النفسية التي يمكن أن تحدث وكيف يتعامل الشخصيات معها، من خلال حوار مدقق لإظهار تفاصيل هذه التداعيات وتأثيرها، وبعيدا عن أي حوارات قضائية، أو مشاهد للمحاكمة.
تتبع أحداث الفيلم الممثلة التلفزيونية الشهيرة إليزابيث بيري (ناتالي بورتمان) أثناء ذهابها إلى سافانا، جورجيا، للبحث عن جرايسي أثرتون (جوليان مور) من أجل فيلمها الجديد الذي يتناول قصة حياة أثرتون قبل عشرين عامًا، بدأت جرايسي، وهي في الثلاثينيات من عمرها، علاقة غرامية مع جو (تشارلز ميلتون) عندما كان في المدرسة الإعدادية، ولا يزال الاثنان معًا، على الرغم من نبذ العديد من حولهما لعلاقتهما الغير طبيعية، حيث يعيشان في منزل فسيح مع أطفالهما الثلاثة الملتحقين الآن بالجامعة.
ومن هنا برز دور المخرج الأمريكي المشهور تود هاينز، الذي تميز بأفلامه الميلودرامية القوية والمؤثرة، حيث يعتبر هاينز واحدًا من أبرز المخرجين في هذا النوع من الأفلام، وتميز بقدرته على إحضار العواطف العميقة والقصص المؤثرة إلى الشاشة الكبيرة. فقد استطاع تصوير ذلك بمهارة فائقة، من خلال دراما نفسية مقلقة من خلال فيلم May December، مصورا القصص الشخصية بشكل مبدع وإيصال المشاعر والأفكار بطريقة مؤثرة، ومستخدما تقنيات متقدمة في التصوير والإضاءة لإضفاء جو من الغموض والتشويق على أعماله، وبألوان باهتة بشكل مبدع تتناسب مع متطلبات الحبكة، معتمدا على النظرة الأنثوية في تقديم الفيلم، ومركزا على تفاصيل صغيرة وعواطف الشخصيات النسائية، مثلما فعل في فيلمه Carol بطولة كيت بلانشيت، ومستغلا طاقم عمل قوي، أسر به الجماهير، فوضع النجمتان جوليان مور، وناتلي بورتمان، في الصدارة، ليكمل كلا منهما الأخر بحساسية نادرة، وبأداء استثنائي يجعل الجمهور يشعر بالدهشة والإعجاب، فواحدة منهما تحاول نبش الماضي لمصلحتها الشخصية، والأخرى تسعى لدفن كل شيء يتعلق بحياتها الماضية. فجوليان مور تتمتع بموهبة فريدة وقدرة استثنائية على التحول والاندماج في شخصياتها، وقد استطاعت أن تجسد تعقيدات الشخصية بشكل رائع، حيث تمكنت من إظهار الجانب الهش والقوة في نفس الوقت. كما نجحت في توصيل مشاعر الشخصية بشكل مؤثر، وأن تجعل الجمهور يشعر بالتعاطف والتأثر بما يحدث لها. ويعتبر مايو ديسمبر التعاون الخامس بين جوليا مور وتود هاينز، حيث قدما سابقا أفلام (Safe عام 1995، وFar from Heaven، وI'm Not There)، وغيرها من الأعمال التي تركت بصمة قوية في أذهان الجمهور، وهنا اعتمد هاينز على موهبة استثنائية في تجسيد شخصية قد تبدو معقدة، لامرأة تعاني من ضغوطات حياتية صعبة، فعبرت عن الألم واليأس الذي يعتري شخصيتها، وبغض النظر عن الصمت الذي يحيط بها، يمكن للجمهور أن يشعر بالقوة العاطفية التي تنبعث منها.وكانت ناتلي بورتمان على قد كبير من إثبات نفسها مرة أخرى كواحدة من أفضل الممثلات في صناعة السينما، وبأداء استثنائي في تطوير حبكة الفيلم، ومقدمة احتياجات الدور بشكل لا يشوبه شائبة.
أما الوحش الخفي في كل هذا هو جو (تشارلز ميلتون)، البالغ من العمر 36 عاما، لكنه عالق في نوع من نسيان المراهقين، يشعر بأنه محاصر وغير قادر على الهروب من ظلال ماضيه الذي اعتقل فيه. فهو لم يتمكن من النمو خلال فترة المراهقة كما ينبغي، ويعاني من تحمل المسؤوليات، واتخاذ قرارات ناضجة على المستوى الشخصي، واستطاع ميلتون تجسيد شصخيته بنجاح في إبراز عواطفه ومشاعره في لحظة بسيطة، ومشهد لا يتعدى العشر دقائق بينه وبين بورتمان، عندما تحدث عن مشاعره التي يمر بها ﻷول مرة، وعن إحساسه بالشلل والندم كضحية، مستخدما لغة جسد وتعابير وجهية بارعة، مما جعل الشخصية تبدو حقيقية وملموسة.وقد تميزت كاميرا كريستوفر بلاوفيلت، على تصوير المشاهد بشكل شاعري وإيصال الأفكار بطريقة فنية راقية، على سبيل المثال مشهد الافتتاحية، وداخل حديقة منزل أثرتون حيث السماء الملبدة بالغيوم، مضيفا على ذلك ظلال المكان ليبرز المعاناة التي يعيشها كل شخصية من شخصيات الفيلم، ويستخدم الزوايا المختلفة للكشف عن حقائق أعمق مخفية بداخلها.
بشكل عام، فيلم May December يعتبر عملًا سينمائيًا استثنائيًا يستحق المشاهدة، ويقدم فحصًا مذهلاً لتعقيد الحياة البشرية، ويكشف عن جوهر عاطفي محطم في شخصياته، ومؤكدا على الحقيقة المرة والمؤلمة التي يجب على الشخص أن يواجهها في حياته. إنه عمل فني يستحق الاهتمام والتقدير.