إذا كنت كذلك، موظفًا مخلصًا ممن اعتادوا أن يحتفوا أول مايو بعيد العمال، يجلسون قبالة شاشة تليفزيون قديمة تعرض عليهم فيلم الأيدي الناعمة الذي يعلي قيمة العمل ليس كوسيلة للحياة ولا كعبادة لوجه الله؛ لكن كقيمة مفارقة لن يتحقق الإنسان إلا به من وجهة نظر (توفيق الحكيم) مؤلف القصة و(محمود ذو الفقار) مخرج الفيلم القديم ذي الألوان الناعمة وشاشة السينما العريضة.. إذا كنت هذا الشخص.. عفوًا، لا تشاهد Merger، ليس هذا الفيلم لك؛ بل إنك قد تجد فيه تجسيدًا لأعنف مخاوفك وأقسى كوابيسك.
فيلم Merger أو (المازج) ربما يمكنك أيضًا ترجمته إلى الخلاط.. المعصرة.. المطحنة أو حتى بتصرف يمكنك تسميته (المعجنة) والتسمية الأخيرة بالمناسبة وجدتها مكتوبة بخط مرتبك بجوار مدخل أول مكان عملت به في التليفزيون منذ عقود، وللمفارقة ما تزال الكلمة مكتوبة في نفس المكان رغم التنظيف والطلاء، والعصور التي مرت عليها؛ كما لو كان لا أحد غيري يلاحظها أو أن الجميع يرونها ويتواطأون على بقائها، بل ربما هناك من يجددها ويحافظ على حضورها باستمرار في ذهن من يلج برغبته وبكامل قواه البدنية والعقلية معجنة العمل السعيدة.
Merger يصنف على أنه فيلم رعب قصير، إنجليزي، من إخراج وتأليف دانيال نيرجيت Daniel Negret وتمثيل نيك دافيد Nick David وجون تيسيفا Jonas Tesifa، الفيلم حاز عدة جوائز في مهرجانات غربية كأفضل فيلم وأفضل فيلم رعب وأفضل مخرج. وللحق نستطيع رفعه من التصنيف كفيلم رعب؛ مَن وضعه في هذه الفئة دون شك لم يختبر من قبل رعبا حقيقيًا، قد نعتبره فيلم مصارحة رمزيًّا أو تعبيريًا يطرح تساؤلا ثوريًا عن النظام العالمي وتسلط الرأسمالية والشيوعية اللتان اكتشف العوام مؤخرًا أنهما وجهان لعملة واحدة وخُطـَّـتان تختلفان في الأساليب لكن الهدف واحد؛ تحويل الإنسان إلى ترس في آلة ضخمة، يؤدي عمله بسعادة ورضى سواء أدى هذا العمل من أجل تسديد ديونه من القروض التي يحقق بها ذاته، أو على الطرف الآخر يعمل من أجل المبادي التي يسعى لها ويسعد بها فيستمر في العمل ولا تتوقف عجلة الإنتاج أبدًا، لكن المستفيد الحقيقي من طحين عجلة الإنتاج هو هؤلاء الذين يسكنون في الأعالي سواء كانوا أصحاب الشركات أو القادة السياسيين الذين لا يقترضون من أجل بيت وسيارة، ولا يؤمنون بالمبادئ التي يدعون إليها.
يعرض الفيلم مشهدًا يوميًا نعرفه جميعًا كموظفين مخلصين: واحدٌ منا.. من هذه الفئة التي تستعذب الاندماج التام في وظيفتها، بينما العمل يفكر فيها فقط كوجبة دسمة سيلتهمها عما قريب كما التهم الآلاف عبر السنين دون أن يعنوا لأعمالهم أو لأصحاب هذه الأعمال إلا ما تمثله الدواجن لصاحب المزرعة.يبدأ الفيلم بلقطات عامة لحي مال وأعمال في مدينة فخمة ضخمة، يتضح ذلك من المباني الشاهقة، ناطحات السحاب الزجاجية المصممة لتوفير الطاقة لملاك الشركات نهارًا، أما ليلا كما هو حالها الآن تظهر من خلالها أضواء خافتة تشير إلى أن كثيرًا من الدؤوبين ساهرون -لا يزالون- يؤدون أعمالا إضافية، شغفًا.. ربما، وربما رغبة في الترقي وأملًا زائفًا في تخطي المرحلة اقتداء بثور صلاح جاهين الذي خاطبه في الرباعية الشهيرة التي تقول:
"اقلع غماك يا تور وارفض تلف اكسر تروس الساقية واشتم وتف قال هي خطوة كمان وخطوة كمان لاوصل نهاية السكة.. للبير يجف.. وعجبي"
طبعا كما تصور جاهين، والقارئ لكلماته؛ لن يجف البير أبدًا، والسكة دائرة، حلقة مفرغة لا نهاية لها، إلا إن كانت الغايةُ نهايةَ الموظف نفسه كما يصورها هنا بقسوة فيلم Merger.
الموظف هنا ساهر وحده في صالة ضخمة ملأى بأجهزة الكمبيوتر غير جهازه الذي يمارس عمله عليه باندماج تام نلاحظه من خلال اللقطات المقربة الكثيرة القصيرة، سريعة الإيقاع، أصابعه تضرب بعنف لوحة المفاتيح والأرقام على الشاشة تتغير، قدمه تهتز بإيقاع لاهث يوضح مدى استغراقه، وفي أذنيه سماعات يبدو أنه يسمع من خلالها موسيقى تساعده على تسريع وتيرة العمل، وهي في نفس الوقت تمنعه من سماع رنين هاتفه الذي يحمل له اتصالًا من شخص قلق عليه، من خارج دوامة العمل، يظهر الاسم على شاشة الهاتف Izzy ربما تلك زوجته أو أمه التي تظهر معه في صورة صغيرة أمامه على المكتب.. لا يهم مَن، لكنه شخص ما مهتم لأمره أفقده التواصلَ معه الاندماجُ في العمل، هذه الحالة التي نعيشها جميعًا، طبقة الموظفين في العصر الحديث، حيث علاقتنا بالعمل قَطَّعت بجشع كل صلاتنا بعوالم أخرى كانت دائمًا الداعم والسند للإنسان في تحقق إنسانيته مثل الأسرة والأصدقاء.
نلاحظ تكرار الضغط على حرف F اللاتيني في لوحة المفاتيح، لا يمكن أن نخطئ الإشارة التي يقدمها لنا المخرج تارة من خلال التكرار لنفس الحرف، وتارة بكونه الحرف الوحيد الذي يظهر في بؤرة العدسة، في منطقة الوضوح (Focus) بينما جميع الحروف الأخرى مشوشة. لكن ما الذي يشير إليه هذا الحرف، إنه واحد من أكثر الحروف استخدامًا في اللغة الإنجليزية، هناك حوالي أربعة آلاف كلمة أساسية تبدأ به، غير مشتقاتها اللانهائية، أي كلمة يمكن أن يشير إليها، وأي رمز أقرب إلى حالتنا هذه؟!
يحملنا السياق العام للفيلم والحدث الرئيسي إلى تذكر كلمات بعينها: flee، free، fear، far، factory، family، failure، facts، face، fence، الطابور طويل جدًا ومن الصعب التركيز على كلمة واحدة، لماذا يركز المخرج على هذا الحرف. الكلمات التي استدعيناها سريعًا من ضمن آلاف البدائل الأخرى هي الأقرب إلينا أثناء مشاهدة الفيلم -وربما بتأثيره- تحمل في أغلبها معانٍ متصلة بالرعب والفرار والحدود والنهاية، وإذا عدنا للاختصارات الشائعة كمرجعية، نجد أن حرف F يستخدم بديلًا لكلمة امرأة female أو نسوي Feminine، والمرأة في هذا الفيلم غائبة حاضرة، ربما تكون رمزًا للنجاة أو فرصة النجاة الوحيدة للبطل والتي يغفل عنها عندما كان بإمكانه التواصل معها، ويعجز عن الوصول إليها عندما تصبح خياره الوحيد.يُستخدم حرف F أيضًا دليلًا على الفشل في الامتحانات المدرسية في بعض الأنظمة التعليمية في الغرب التي تتدرج فيها نتائج الطلاب من حرف A بمعنى ممتاز إلى حرفنا هذا الذي يعني راسب، آخر أقرانه أو فاشل تمامًا.
هناك أيضًا استخدامٌ قد يكون ملائمًا إلى حد بعيد لموظفنا المجتهد، وعمله المرتبط بالكمبيوتر؛ حيث أصبح شائعًا عند المولعين بألعاب الكمبيوتر في العقود المتأخرة استخدام حرف F للتعبير عن الاحترام أو أداء التحية لشهداء الواجب (طبعًا في الألعاب الإلكترونية)، وقد تولد هذا المعنى من خلال لعبة كانت شائعة وربما ما تزال تحديثاتها تلقى رواجًا اسمها Call of Duty أو نداء الواجب، وفيها يلقى صديق البطل حتفه مضحيًا بنفسه، ويكون على اللاعبين تقديم التحية الواجبة له من خلال هذا الحرف، وهو ما جعل استخدامه في الألعاب الحربية شائعًا ويشير إلى التضحية والفناء من أجل الآخرين والتقدير لهذه الروح البائسة. وكذلك أيضًا صار هذا الحرف يستخدم بنفس المعنى في تطبيقات المحادثات عبر الإنترنت.
ولا ننسى طبعًا الاستخدام الأكثر شيوعًا للحرف F كبديل لكلمة تعد بذيئة في السياقات الرسمية وترفع تصنيف الأفلام من (مشاهدة عامة) إلى (ممنوع إلا برقابة عائلية)، نعم الكلمة التي تتردد كثيرًا في الأفلام الأمريكية مما جعلها على ألسن الشباب حول العالم، والتي تترجم عادة إلى (تبًا لك)، وهي في الواقع لا تقال أبدًا في الغرب بمعناها الحرفي، لكنها اكتسبت معنى معاصرًا أقرب للترجمة العربية المهذبة، نستطيع أن نقول إنها صارت لفظة اعتراضية تشير إلى البؤس أو الغضب أو الحنق، وإذا تابعنا إيقاع ضربات أصابع البطل على لوحة المفاتيح، هذا الإيقاع الذي نسمعه بوضوح من خلال تراك الصوت، والذي يوقع هكذا: (تك تك تك تك.. دوم) فتأتي الدوم كل مرة مع ضغط حرف ال F مما يؤكد هذا المعنى في أذهاننا، خاصة وهو الحرف الذي يبدأ عنده التحول، حيث يعلق إصبع البطل داخله، ويحاول أن يخرجه دون جدوى، بل يزيد تعقيد الأمر عندما تعلق يده الأخرى (اليمنى) داخل الطاولة التي تلتهمه كله فيما بعد.
إذًأ حرف F مدخل جيد يوحي للمشاهد ببؤس حال هذا الموظف الساهر المتماهي مع عمله لدرجة تنسيه نفسه وأهله، ونعرف من خلاله أن خطرًا عظيما محدق به. يتأكد الإحساس بالخطر من خلال اللقطة الافتتاحية الواسعة التي يظهر فيها البطل ضئيلًا متواريًا خلف إحدى الشاشات الكثيرة التي تملأ المكان، وأيضًا من خلال التكوين الذي يحصره أول دقيقتين من الفيلم داخل تأطير بصري من خلال خطوط زجاج عرضية أو بعض أثاث المكتب، الكاميرا موضوعة خلف أشياء تخفي أجزاء من وجهه لتؤكد أنه محبوسٌ دائمًا في حيز ضيق للغاية مهما كان المكان متسعًا.
إذا كنت أنت وأنا، كموظفين، قد نتعاطف مع نظيرنا هذا (البطل)، لا يبدو أن صانع العمل يتعاطف معه، ليس لأنه غريب عنه، لكن ربما لأنه يمثل أسوأ ما في الإنسان العادي في العصر الحديث، المواطن في قرية صغيرة اسمها العالم يحكمها أصحاب رؤوس الأموال ومديرو الشركات والمجموعات الاقتصادية وصناديق الاستثمار. هذا المواطن الضحية يسلم نفسه بيده وبرضى تام لطاحونة الأبدان التي اسمها الوظيفة، ونشاهد معًا كيف أن لوحة المفاتيح والطاولة التي يجلس إليها الموظف تلتهمه في مشهد فنتازي صارخ ونسمع صوت عظامه ولحمه يفرم في فضاء مجهول حتى لا يبقى منه إلًا عصارة من دمه، والغريب أن عامل النظافة في الصباح، عندما يكتشف ما بقي من موظف الشفت المسائي، لا يبدو عليه الاستغراب.. فقط بعض الأسى يبدده بشرب بعض الخمر من علبة صفيحية يحملها في جيبه، وبهدوء قاتل يجمع الدماء في علبة بلاستيكية كالتي تستخدم في معامل التحاليل ويصعد سلمًا طويلا حيث يضع العينة داخل ثلاجة ضخمة مع عشرات العينات الأخرى التي توحي بأن الكثيرين سلكوا نفس الطريق من قبل، وهناك موظفون كثر ضحوا بأنفسهم لينتهي بهم الأمر عصارة في علبة عينات داخل ثلاجة ضخمة تمتلكها جهة العمل التي تمثل صاحب عمل لا يظهر أبدًا في الصورة لكنه موجود هناك بالأعلى دائمًا.
الفيلم، رغم قصره الشديد حيث لا يزيد عن سبع دقائق؛ يحمل عمقًا فلسفيًا ونظرة تاريخية وتحليلًا وتأملًا لإنسان العصر الحديث وقضيته مع العالم ومع وجوده. الإنسان الذي يصارع من أجل تحققه فيجتهد ويجاهد ويصبر، يَقتُل ويُقتَل، يتصور نفسه منتصرًا أو في سبيله للانتصار، لكنه رغمًا عنه يحقق إخفاقًا تلو إخفاق وهو غافل في غمرة إنجازات صغيرة وهمية تغشي عينيه وتحجب عنه الرؤية والسمع رغم أن عينيه مفتوحتان عن آخر مداهما كما يظهر في اللقطات المقربة لعيني الموظف، وأذنه غارقة في موسيقى حماسية، لكنه أيضًا لا يسمع شيئًأ، إنه يَسمع غير مُسمَع، فلا يصل إلى أذنيه رنين هاتفه وهو إلى جواره.. يغفل عنه وفيه ربما نجاته.