هل تعرضت لموقف مرعب في سيارة تاكسي، أو مع سائق استدعيته من خلال أحد تطبيقات الهواتف الذكية؟ في الغالب قليلون هم من سيجيبون بنعم، وبالرغم من ذلك انتشر الذعر في الآونة الأخيرة بين الفتيات والسيدات، خاصة؛ بعد تداول أنباء عن حوادث معينة أثارت الأحاديث وحفزت قلقًا قديمًا لدى الناس من الغرباء. الغريب دائمًا محل شك حتى يثبت العكس أو على الأقل حسن النية، فما بالك لو كان هذا الغريب قائد سيارة وضعتَ نفسك -بإرادتك- رهينًا في مقعدها الخلفي. طالما السيارة متحركة؛ مكانك في الخلف لا يسمح برؤية واضحة ولا بالقدرة على التحكم أو تغيير وضعك البائس، أنت مضطر للانتظار حتى محطة الوصول التي قد تكون مفاجأة لك، أو على الأقل سيظل بإمكان خيالك التلاعب بك طوال الطريق مهيئًا لك إمكانية حيود القائد وتحولك إلى ضحية وحش لا يفصح عن نفسه خلف وجه سائقك الوديع. تلك بيئة مناسبة تمامًا لصناعة نوعين من الأفلام: الكوميديا والرعب. سيدهشك كم أفلام الرعب الغربية، خاصة الأمريكية، التي تتناول موضوع مشاركة الرحلات مع الغرباء، رغم أن تطبيقات الRide Share لم تشتهر على نطاق واسع عالميًا إلا بعد انتشار الهواتف الذكية والشركات المتخصصة في إدارة تطبيقات التواصل بين السائقين والزبائن، لكن ظاهرة التشارك على الطريق قديمة جدًا بدايتها من أيام الانتقال على ظهور الحيوانات المؤجرة والعربات المجرورة، وبعد ذلك سيارات الأجرة (التاكسي، أو كما يقولها المغاربة الطاكسي)، ثم كان تصاعد الظاهرة في عام 1973 وبعده، إبان حرب السادس من أكتوبر وأزمة الوقود في الغرب نتيجة توقف العرب عن تصدير البترول، هذه الأزمة التي رسخت حينها وفي العقود التالية أشكال التشارك في الرحلات لتوفير النفقات، بعضها كان موجودًا قبل ذلك لكنه نما بشكل ملحوظ مثل السفر بتوقيف السيارات على الطريق (الAutostop أو الHitchhiking)، وتشارك الجيران أو العاملين في مكان واحد معًا في استخدام سيارة واحدة، ومع استمرار وترسخ هذه التقاليد أصبحت بابًا كبيرًا للقصص الواقعية والخيالية: حكايات حب تنشأ وحوادث اعتداء وحتى قتل، ومخاوف عديدة. من هنا كان اختيار صانع فيلمنا هذا أليكس ماجنيا Alex Magaña لبيئة فيلمه اختيارًا مثاليًا. فيلم Ride Share هو فيلم أمريكي قصير جدًا (حوالي 4 دقائق) يدور في سيارة صغيرة تستدعيها شابة في مقتبل العمر عن طريق أحد تطبيقات مشاركة الرحلات، لتقلها من أمام أحد المباني السكنية صارمة الهيئة في ضاحية أمريكية هادئة إلى وسط المدينة حيث تنتظرها سهرة نهاية أسبوع صاخبة مع أصدقائها، وفي الطريق تكتشف أنها وقعت ضحية شخص مجهول سرق السيارة بعد تخدير سائقها الأصلي. صانع الفيلم قام تقريبًا بمعظم الأدوار فيه حيث كتب وأدار التصوير ومنتج وأخرج، ليكون بحق مؤلفًا للعمل، وقد أجاد في توظيف تقاليد الدراما الكلاسيكية والقواعد الأكاديمية لصناعة الأفلام. بداية من اختيار المكان والزمان حيث الوقت المتأخر من الليل، وفضاء السيارة المحدود يضاعف إحساسنا بقلة فرص بطلة الفيلم في النجاة من قبضة العدو الذي يمتلك السيطرة التامة على الموقف بكونه قائد السيارة ولأنه يعرف كل شيء عن ضحيته وهي لا تدرك حتى أنها مختطفة. نتعرف بسرعة وبعمق على شخصيات الفيلم: المجرم الذي يقدَّم إلينا بقناع غاز يغطي وجهه وهو يخدر السائق الأصلي، ولا نرى وجهه كاملا أبدًا لأنه دائما يظهر من خلال مرآة السيارة التي تظهر فقط عينيه وأنفه مما يحجب شخصيته طوال الفيلم ليزيد غموضه والإيحاء بخطورته، لكننا نتعرف عليه أكثر من خلال حديثه مع الضحية حيث نفهم من كلامه أنه يتبعها منذ زمن وهي تتسوق أو في حديقة وحتى أثناء مشاهدتها لفيلم في دار عرض، وفي المقابل تُعرِّفنا شخصية الضحية عن نفسها بأريحية فنرى وجهها البريء البسيط الأليف، ونسمع جانبًا من مكالمتها مع صديقة ما، لا تنهيها إلا بعد ركوبها السيارة، ثم حديثها المنفتح الساذج مع السائق، والأحاديث القصيرة العابرة أو ما يسمونه Small talk هو أمر أصيل في الثقافة الأمريكية، هذا الحديث الذي يساعد على بناء التواصل مع الغرباء، وللمصادفة، التي ليست بالطبع صدفة درامية؛ تفتتح كلامها مع الآخر بجملة شهيرة من فيلم Saw: "I want to Play a game" عبارة كفيلة بفتح صندوق الرعب على مصراعيه واستدعاء أحداث سلسلة من أشهر أفلام الرعب. يسمح لنا صانع الفيلم أن نعرف ما لا تعرفه البطلة، حتى يثير شفقتنا عليها وخوفنا من الوقوع يومًا في نفس المصير، إنه يعتمد هنا على التقليد الدرامي الأرسطي القديم كما قال الكتاب، ثم من خلال تقليد آخر وهو التعرف والتحول تتقدم الأحداث سريعًا إلى الأمام، البطلة من مقعدها الخلفي تكتشف وجود لائحة وضعها السائق الحقيقي بهدف التعارف مع ركاب سيارته، يذكر فيها معلومات دقيقة عن نفسه تشمل المدينة التي ولد فيها وأفلامه المفضلة وحسابه على إنستجرام ومن خلال حديثها مع الخاطف ومقارنة كلامه بالمعلومات الواردة في اللائحة تدرك أنها وقعت في فخ وهنا تتحول من راكبة مرحة سعيدة إلى ضحية بائسة، وتبدأ في التضرع للمجرم لكي يتركها وشأنها، لكنه يأبى أن يفعل بل يغافلها ويخدرها، ثم في المشهد التالي نسمع من خلال مذياع سيارة خبرًا عن أنهم وجدوا جثة الفتاة ملقاة في حديقة عامة، ونكتشف أن المذياع في سيارة يقودها نفس القاتل حيث تركب معه ضحية (أو مشروع ضحية) جديدة. مما يوحي باستمرارية الحدث وتكراره، وهذه التقنية (الإيحاء بالتكرار أو إمكانيته) تفيد كثيرًا في الأفلام القصيرة لتوسيع أفق الحدث والإشارة إلى امتداده وحفز خيال المتلقي للبناء على الحدث الذي لديه. يتصور الكثيرون أن أفلام الرعب بحاجة إلى أجواء مفارقة للواقع ومخالفة للتوقعات، أسس الجمهور هذا التصور من خلال تراث سينمائي رأينا خلاله ما يسمى (إضاءة الرعب) وهي إضاءة من النادر أن نراها في الحياة اليومية حيث تسقط على الوجوه من أسفل وترسم ظلالا حادة وعيونا لامعة وأجواء غريبة، أيضًا رأينا أسلوب السينما التعبيرية الألمانية يغزو أفلام الرعب بالديكور الذي يكسر قواعد المنظور ويلغي المعتاد والأليف من المشاهد، كما أن الأحداث يجب أن تكون مهولة الوقع كغزو الطيور أو حتى الكائنات الفضائية، لكن فيلم Ride Share يلفت النظر بلطف إلى أن الرعب يحدث ببساطة من خلال الأحداث اليومية والوقائع المعتادة، كل ما عليك هو كسر الاعتياد فقط، إنه أكثر شيء قد يقلق أو يثير إنسان العصر الحديث الذي يردد بينه وبين نفسه دائما: "No news is good news" طالما أن كل شيء يسير كالمعتاد فهو آمن ولا خوف عليه، لكن في المقابل لو كان الإنسان يعيش في بيئة قلقة كأن يحيا في منطقة حرب مثلا، لن يكون صوت سقوط قنبلة أو انفجار صاروخ أو طلقات مدفع رشاش على أطراف حيه أمرًا ملفتًا بالنسبة له لأنه بفقد الأمن لا يكون لديه ما يخسره. أذكر دائمًا واقعة تاريخية ملهمة حدثت بالقرب منا إبان قيام الملك المغفور له عبد العزيز آل سعود بتوحيد بقاع المملكة العربية السعودية، عندها وجد أن سيطرته على الأعراب الفقراء الرحل محدودة لأنهم لا يملكون ما يُخافُ عليه من متاع الدنيا؛ فما كان منه إلا أن أنشأ الهُجَر وملكهم فيها بيوتًا وأرضًا وبذلك ضمن ولاءهم وتمكن من سياستهم. تعاملْ كذلك مع شخوص فيلمك إن كنت تريد صناعة فيلم رعب محكم تملك زمام أحداثه، ضع أبطالك في وسط آمن مستقر تمامًا يتمتعون فيه بما يتمتع به حضري في القرن العشرين يجلس في بيت نظيف مكيف بين حاسوبه وهاتفه الذكي وبجواره صانعة قهوة ودولاب ملئ بالملابس النظيفة المرتبة وثلاجة مليئة بالطعام، حينها سيكون كل كسر لهذه النعم انهيارًا لكل البناء، هل تذكرون قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم". حافظ دائمًا على رفاهية شخصياتك في فيلم الرعب، اجعلهم دائمًا في نعمة، وبما أنها لا تدوم؛ سيكون بإمكانك إشاعة الذعر في نفس البطل بأقل الأحداث أو المؤثرات كصوت سقوط مفتاح نحاسي أو قطرات مطر على النافذة أو تحول بسيط في مسار رحلة قصيرة إلى وسط المدينة.