
في إحدى الدورات التي حضرتها قبل سنوات عديدة عن صناعة الأفلام التسجيلية، ظل أحد المحاضرين يغذي عقولنا بمعلومة مفادها أن كل شيء وكل شخص يصلح ليكون موضوعًا لفيلم تسجيلي، معلومة تلقتها عقولنا بتقبل تام لأننا جميعًا في تلك المرحلة كنا محترفين وذوي خبرة جيدة تتيح لنا التأكد من أن المعلومة صحيحة وقد اختبرنا صحتها في أعمال مختلفة للتليفزيون. عندما وصلنا إلى مرحلة التطبيق العملي في الدورة التدريبية وكان على كل منا طرح فكرة لتنفيذها كمشروع نهائي، وجدنا نفس المحاضر يعارض بشدة تنفيذ مشاريع عن أشياء تبدو غير براقة مثل فكرة عن كوب شاي (مثلا)، أو كافيتيريا عم فلان التي بجوارنا. كل من طرح فكرة كهذه كان يرى أو يتصور في ذهنه إمكانيات صناعة فيلم جيد من خلالها.. لكن الرجل رفض قطعيًا وصول أي فكرة منها لمرحلة التنفيذ معلنًا أن: "ما أهمية كوب الشاي أو صانع الشاي لنصنع عنه فيلمًا.." أي أنه في آخر الأمر ضرب الحائط بكل المفاهيم النظرية التي درَّسها لنا طوال أمد الدورة.

عندما نبحث قليلا في حوارات الأبنودي، شاعر العامية الراحل الكبير، ونقرأ كثيرًا من أشعاره نكتشف أن الفيلم ساحة أخرج من خلالها صورًا عن ومن طفولته في قريته أبنود. تعاون مع المخرجة الوثائقية سابرة الثقافة المصرية الباحثة عن ذات المواطن المصري وهويته الآنية غير المصطنعة من سلاطين قمة الهرم الثقافي أصحاب الوجاهة والانحيازات الأيديولوجية. معًا، الأبنوديان قدما عملا مشتركًا يعد قطعة فنية فريدة، ذاخرة كمكنون الجواهر بألق تُزيده الأيام سطوعًا.

يخرج الأطفال بأغنامهم كأنهم قادة فرق في جيش عرمرم، كل منهم معه بضع عنزات ونعاجًا وخرافًا لأهله أو لجيرانهم، ويجتمع الكل تحت قيادة عم العادلي، ذلك الرجل العجوز الذي يتابعهم وفي يده عصًا طويلة لا تملك سحر عصا موسى لكنها كفيلة ليقود بها الجمع فيرعى الغنمَ ورعاةَ الغنم. يمرون خلال دروب القرية وساحاتها في جولة يقضون فيها النهار، هذا عمل يومي يساعد على جعل الأغنام تجوع فتأكل أكثر، والمجهود الذي تبذله في ذلك التمرين اليومي يقوي عضلاتها التي تتحول آخر الأمر إلى لحم أحمر شهي قليل الدسم على مائدة شخص ما.

هذا الساندويتش كان جزءً من ذاكرة عبد الرحمن الأبنودي، وغالبًا لم يكن لذلك الطعام حضورٌ كبيرٌ وقت تصوير الفيلم في عام 1975م. أحد الطفلين الذين رأيناهما في الفيلم يصنعان الساندويتش ويأكلانه، في لقاء فيديوي لبوابة الأهرام الصحفية (بعد أن صار هذا الطفلُ الحاجَ حسين إبراهيم. كهلا يتخطى الخمسين أو الستين عامًا) ذكر أنه حينها لم يكن معتادًا على البتاو أو يعرف شيئًا عن ساندويتش لبن الماعز، لكن الأبنودي نفسه في تسجيل تليفزيوني تحدث عنه كجزء من طفولته وأسهب في وصف تفاصيل صنعه كأفضل أنواع الأكل التي اعتادها في صغره خلال اليوم الذي كان يقضيه مع أقرانه في دروب القرية.
منذ اللحظة الأولى أسست عطيات الأبنودي فكرة أنها لا تقدم مجرد ساندويتش، إنه بوابة تطرح من خلالها قضية.. قضية النأي عن العاصمة: (البعيد عن العين بعيد عن القلب) كما يقول المثل، وقرية أبنود تبعد عن القاهرة حوالي ستمائة كيلومترًا، وكما يشير النص الذي يبدأ به الفيلم لا تقف عندها القطارات التي تحمل السائحين إلى الأقصر. هذا النص يتردد معناه في نهاية الفيلم بلقطات مرور القطار بالقرية حيث يحتفي به الأطفال فيهرولون لاستقباله بفرح ومرح طفولي يقابله بعجلة حديدية لا تكترث بوجودهم بل تترك القرية وترحل مخلفة الصمت.
مع تترات البداية نسمع صوت حداء بدوي، وهو غناء مأخوذ من الأصوات التي يطلقها حادي الإبل ليجمع ماله في الصحراء. غناء حزين غير مفهوم لنا اليوم، لكنه يحيلنا إلى حالة من التغريب تفصلنا عن الواقع. تخرجنا من الزمن الذي نسي القرية الجنوبية أو تركها عفوًا في لحظة من الماضي. ما تزال تعيش كما كان غيرها يحيون قبل عشرة قرون من الزمان أو يزيد، ومن طرب اللحن الحزين نخرج إلى مجموعة من اللقطات المقربة، ومعظم اللقطات التي ستقابلنا في الفيلم لقطات قريبة، ما يعبر عن اهتمام مدير تصوير الفيلم الدكتور ماهر راضي بالتفاصيل في كل شيء، حتى اللقطات الواسعة التي تأتي في السياق لم تكن شديدة الاتساع، كما لم نر أي استخدام لعدسات متسعة الزاوية طوال الفيلم، وهو اختيار قد يكون لظروف إنتاجية، فلا نتوقع أن تكون رفاهية الاختيار متاحة بالنسبة لفريق العمل الذي قضى وقتًا طويلا وصل في تقديرات أحد المشاركين لشهر أو أربعين يومًا، وهي تقديرات لا يمكن التعويل عليها، لكنها تعطينا فكرة عن المدى الذي اضطر فيه مجموعة السينمائيين القادمين من القاهرة للبقاء في هذا المكان المعزول عن كل عوامل التحضر، فلا نتوقع أن الكثير من الاختيارات التقنية كانت متاحة لهم، ومع ذلك أبدعوا في توظيف المتاح لصنع صورة ساحرة. التصوير عكس الشمس كثيرًا مع الغبار الذي تثيره حركة الحيوانات أضفى طابعًا خرافيًا على اللقطات يؤكد معنى الغربة التي تدعم الشجن الذي يثيره الموضوع. استخدام عاكس الضوء في اللقطات المقربة ساهم في التأكيد على التفاصيل، وهي مهمة للغاية في فيلم تسجيلي خاصة هذه النوعية التي وثقت حياة قد تكون اندثرت، بل إنها حال توثيقها كانت على مشارف الاندثار فعليًا.
ملابس أهل الصعيد من الرجال والنساء والأطفال، خاصة الصعيديات داخل البيت وخارجه وتصميمها المميز الذي لن تجده اليوم لأن الجميع أصبح يعتمد على الملابس الجاهزة التي تنتجها آلات المصانع فلا يميز هذه عن تلك إلا المحل الذي اشترين منه ملابسهن بينما ترى كل امرأة في الفيلم ترتدي زيًا مختلفًا عن الأخرى، فالمرأة الشابة التي تعمل في المنزل وتبذل جهدًا في العجن والخبز وتوقد الفرن البلدي الطيني وتجلس أمامه بل وتمد يدها لتلقط الخبز من قلب لهيبه ترتدي زيًا أكثر مراعاة للحركة، فتجده قصيرًا بعض الشيء يكشف الساعدين، هذه المرأة الشابة التي ما تزال قادرة على الإنجاب تجدها ترتدي جلبابًا متسع الصدر ليسهل عليها إرضاع صغارها، على خلاف من تخطين هذه المرحلة العمرية، والجميع عند الخروج من المنزل ترتدين المَلَسَ الصعيدي الأسود المنسدل فوق ملابسهن. رصد الفيلم أيضًا هذه العمارة المميزة لبيوت الصعيد التي بنيت كما بنى المصري بيوته منذ فجر التاريخ بالطوب الأحمر والطوب اللبن والطين وجذوع الأشجار والنخيل. الشوارع الضيقة التي تعزل السكان والمارة عن قيظ الصيف وصقيع الشتاء كما أنها تدعم فكرة النمو العائلي للقرى والنجوع، فهي عائلة تستقر بالمكان وتبدأ النمو فتتوالد العمارة بعضها حول بعض حتى تبدو كتلة عمرانية واحدة صماء من الخارج وخلية نحل من الداخل تعج بالحركة والحياة.
