أن تكتب عن فيلم أمريكي صدر عام 1976 تشبع بالدراسات والأوراق النقدية، وأعده النقاد والمخرجين والجمهور على حد سواء، واحدًا من أعظم الأفلام في تاريخ السينما الأمريكية في القرن العشرين، فيه شيء من الصعوبة.
هذا الفيلم من كتابة بول شريدر، يقدم فيه شخصية ترافيس بيكل (روبرت دي نيرو) في سياق يعكس حالته النفسية والعاطفية المضطربة، يتناول موضوع العزلة والانحطاط الحضاري من وجهة نظر شخصية ذكورية مضطربة مستنكرة من الوضع العام المزرى في البلاد، مما أثر على كيفية تقديم الشخصيات النسائية الحساسة في الفيلم، حين يلعبن أدوارًا مهمة في قصة سائق التاكسي (Taxi Driver)، لكنهن يظهرن من خلال منظور ترافيس الشخصي، والذي يُعتبر مضطرباً ومتحيزاً. فشخصية بيتسي (سيبيل شيبرد) تُصور رمز للأمل والرغبة في الارتباط العاطفي، رغم أن بيتسي تُظهر استقلاليتها ورغبتها في الابتعاد عن ترافيس عندما تبدأ في اكتشاف اضطرابه، إلا أن دورها يبقى محصوراً في كونها هدفاً لرغبات ترافيس. وشخصية إيريس (جودي فوستر) تمثل الفتاة القاصر التي يعمل ترافيس على إنقاذها من بيوت البغاء، وشخصيتها تُظهر بُعداً من القوة والبراءة المهدورة، إلا أنها تظل تحت رحمة تصرفات ترافيس ورؤيته للأمور، دورها في الفيلم يعزز رغبة ترافيس في الشعور بالبطولة. بول شريدر يركز في هذا الفيلم على اضطراب ترافيس بيكل النفسي ورؤيته المشوهة للعالم، بما في ذلك النساء. النساء في الفيلم يظهرن في سياقات تعزز من فهمنا لشخصية ترافيس أكثر من كونهن شخصيات ذات استقلالية وعمق بحد ذاتهن. إن كنا نود تقييم موقف شريدر من قضايا المرأة بشكل أوسع، يفضل النظر في بعض أفلامه الأخرى مثل “American Gigolo” و”Cat People”، نلاحظ أن الشخصيات النسائية تحمل أبعاداً أكثر تعقيداً وتستحق الدراسة بشكل مستقل عن الشخصيات الذكورية. ومع ذلك، لم يُعرف عن شريدر تركيزه على قضايا المرأة بشكل خاص أو الترويج لنضالهن في أفلامه. لكن في “سائق التاكسي” النساء يظهرن بشكل أساسي من خلال منظور شخصية “لا أعرف ماذا أريد”، مما يضعهن في إطار يركز على تعزيز فهم المشاهد للشخصية الرئيسية. يمكن القول أن (بول شريدر) والمخرج (مارتن سكورسيزي) يبدعان في اظهار شخصية ترافيس بيكل بشكل بارع، شخصية تعاني من الأرق والوحدة بعد العودة من حرب فيتنام، شخصية مليئة بالمتناقضات. شريدر وسكورسيزي يعرضان ببراعة هذه الديناميكية النفسية، مما يجعل الشخصية محورية ومؤثرة في السياق الدرامي للفيلم. ويُقدّمان كمثال حي الشخصية المضطربة نفسياً والتي تعاني من تداعيات الحرب، ويضعانه في مواجهة مستمرة مع واقعه المظلم، مما يجعله يفقد التوازن بين الواقع والخيال. وتعمقا في تفاصيل حياة ترافيس اليومية، من خلال مذكراته الشخصية إلى تفاعلاته البسيطة مع الآخرين، ويُظهران بشكل ملموس كيف يمكن للوحدة والعزلة أن تقود إلى حالة مضطربة. في مشهد You talking’ to me “هل تتحدث معي؟” يعد هذا المشهد من أكثر المشاهد المكتوبة بعناية والمؤثرة في السينما، حيث يؤديه ترافيس وهو يقف أمام المرآة في غرفته ويمارس حوارًا وهميًا، يتحدث فيه مع نفسه ويحمل مسدس، وكأنما يتحدى عدوًا غير مرئي، ويكرر الجملة بلهجة مليئة بالغضب والتوتر، مما يعكس مدى انفصاله عن الواقع وانغماسه في عالمه الخاص، والمرآة هنا تعمل كرمز لهذا الانفصال، فهي ليست مجرد سطح يعكس صورته، بل هي نافذة إلى عوالمه الداخلية المضطربة. ومما جعل فيلم “سائق التاكسي” مادة خصبة للتفكير والنقاش، النهاية التي تترك مفتوحة للتفسير والتي تعد من أبرز نقاط القوة في الفيلم، هل نحج ترافيس في تحقيق التطهير الشخصي؟ أم أنه سقط في دائرة جديدة من الوهم؟ هذا السؤال يبقى دون إجابة.