رواية قديمة، معروفة كفيلم ولاقت نجاحًا كبيرًا كمسلسل إذاعي وبعدها كمسلسل تليفزيوني، مجرد استعراض أسماء الأبطال الذين تناوبوا على أداء أدوارها الرئيسية: (عمر الشريف ونادية لطفي وسميرة أحمد ورشا مدينة في المسلسل الإذاعي عام 1969م، ومحمود يس وماجدة الصباحي ونجلاء فتحي وميرفت أمين في الفيلم السينمائي عام 1972م.، ثم كمال الشناوي ويسرا وليلى علوي وماجدة الخطيب في المسلسل التليفزيوني عام 1980م.، كل أسماء هؤلاء النجوم ذوي الشهرة والرسوخ في ثقافة المشاهد العربي؛ تدفعنا إلى التأكد من أن الرواية بتمثلاتها السمعية والسمع بصرية حاضرة في الذاكرة والوجدان لم تغب بشخوصها وأحداثها وصراعاتها، بمغازيها ومخازيهم، نجاحاتها وانتصاراتهم وانكساراتهم وألق نشوة لحظات القراءة الأولى وحالات المشاهدة والاستماع الممتدة. رغم السنوات الطويلة منذ صدورها أول مرة منذ ستين عامًا بالتمام والكمال عام 1964.
ثم يأتي هذا العام المخرج أمير رمسيس والسيناريست وائل حمدي والمنتجة شاهيناز العقاد فيعيدون إنتاج الرواية ويطلبون من الجمهور ألا يضع مقارنات بين هذا الفيلم والفيلم السابق أو بين أبطال العمل الأحدث والأعمال السابقة. طلبٌ مشروع ومفهوم ومنطقي، لكنه غير واقعي؛ لن يتمكن الجمهور أبدًا من منع نفسه من المقارنة، ليس بهدف الحكم أو بغرض التقليل من شأن هذا أو ذاك، لكن الرواية وشخوصها صار لهم تاريخ في الذاكرة الجمعية للمجتمعات العربية، حتى مَن أسخطه مجتمع الرواية الأصلية أو ضج بمهاجمة مشاهد الفيلم المتحررة (+18) أو حَزِن لمأساوية نهاية أبطال المسلسل التليفزيوني، كل هؤلاء قرَّ في نفوسهم، في ذاكرتهم العميقة أو لاوعيهم، شيءٌ من الرواية وبعض من الدراما والكثير من الحنين للماضي.
الآن، عندما يطلب صناع الفيلم من المشاهد الاكتفاء بالمشاهدة المتجردة؛ ذلك طلب عزيز وصعب المنال، بل إن المشاهدة المتشعبة -إذا جاز التعبير- تعد واحدة من سمات العصر، منذ اكتشاف الإنسان أنه يعيش عصر ما بعد الحداثة أو ما سُمي بذلك، حيث الزمن متجاور وليس متتاليًا، لم تعد الأحداث حلقات مسلسلة بل صارت بقعًا لونية متجاورة على سطح الماء قد تتداخل حينا فتتماهى بحيث لا ندرك أين ومتى تنتهي تلك وتبدأ الأخرى. وبصفة الأعمال الفنية حوادث كونية؛ لا يمكننا فصل الحديث عن إحداها كما لو كانت كلًا مجردًا، بل لا بد من النظر إلى اليَمِّ الذي جاءت في خضمه، والمحيط الذي كانت -تلك الأعمال- يومًا موجاتٍ تتلاطم فوق سطحه أو تستقر في أعماقه إلى حين. عندما ندلف قاعة السينما من بوابة تحمل فوقها بوسترًا ضخمًا عليه اسم الفيلم: "أنف وثلاث عيون"، تسوقنا ذاكرتنا للتساؤل عن معنى العناصر الثلاثة التي تطل علينا: الأنف، والعيون الثلاثة. الفيلم نفسه يفسرها من خلال الحوار على أنها تمثل ثلاث حالات للحب: "عين العقل وعين القلب وعين الغريزة"، فكأن كل علاقة عاطفية بين البطل (دكتور هاشم) والبطلات (أمينة ونجوى ورحاب) تمثل حالة من هذه الحالات، لكن الرواية الأصلية تأخذنا إلى إشارة أخرى يفهمها كتَّاب وقرَّاء الستينيات على وجه الخصوص عندما راجت حينها تقنية كانت جديدة على الرواية العربية يقال إن أول من أدخلها إلى أدبنا كان الروائي الكبير نجيب محفوظ، وهي تقنية تعدد أصوات السرد، أو إحدى أشكالها التي يسمونها: البوليفونية، نسبة إلى تقنية مشابهة في الموسيقى تعتمد على تعدد الألحان في العمل الموسيقي الواحد. كانت هذه التقنية في الأدب وسيلة لعرض القصة من وجهات نظر مختلفة كأنها ثلاث قصص عن موضوع واحد، كل منها ذاتية تفصِّل الأحداث كما شاهدها أو عاشها أحد الشخوص، أو بالأحرى أحد شخوصها. كذلك فعل إحسان عبد القدوس في روايته التي صدرت في جزأين يضمان حوالي ألف صفحة؛ فجعل محور الرواية هو هذا الرجل الذي تدور في فلكه نساء عديدات مررن بحياته، لكن المؤلف اكتفى من كل عشيقاته بثلاث فقط لأنهن تمثلن السَرَدَةَ الثلاثة، تروي كل منهن الحكاية من وجهة نظرها.
الرواية الضخمة وتعدد الأصوات فيها دفع كل ما تناولها دراميًا إلى قرارات أهمها تنحية أصوات السرد والخروج بصوت واحد يروي القصة للجمهور هو صوت صانع العمل هو العين الرابعة التي تمثل عين القارئ المبدع الذي يهضم القصة ويعيد تقديمها في نص جديد، وتلك عين واحدة حتى لو أخذنا في الاعتبار أن الدراما السينمائية والتليفزيونية والإذاعية أعمالٌ جماعية يقوم بها جماعة من الفنانين، كما أنها تضم أساليب أو أشكال متعددة ومتنوعة للسرد، لكنها آخر الأمر (غالبًا) تمثل صوتًا سرديًا واحدًا. الأصوات السردية الثلاث التي وظفها إحسان عبدالقدوس كان لها تأثير مباشر على صورة الشخصيات النسائية، فهن تتحدثن عن أنفسهن من زوايا رؤيتهن لذواتهن، وبالتالي كن قويات كفاية يتمتعن بقيادة الأحداث والقدرة على تطويرها وإيقافها في الوقت المناسب، ونهاية مفعمة بالنجاح مع اختلاف نوعية النجاح المناسبة لكل شخصية وكل حكاية، حتى أمينة/ميتو التي تحولت إلى بائعة هوى؛ تعرضها الرواية كامرأة متماسكة، أصبحت صاحبة فلسفة في العلاقة مع عالم الرجل بعد كل التجارب الخائبة والخسارات المتلاحقة التي مرت بها، واستغلال هؤلاء جميعًا لها، كل ذلك جعلها تقرر أن تبيع نفسها طالما أنها تحصل على المقابل المناسب باتفاق ملائم يخرج منه الجميع سعداء، دون أن يشكل ذلك أزمة لها.
الساردة الثانية نجوى أيضًا قوية رغم ما مر بها من صدمات ومرض وتخبط وتبعية مالية لمن يعولها، لكنها أخيرًا تلتحق بالجامعة وتقنع أمها بالتبني بالعيش بعيدًا عن المظاهر. حياة تناسب دخلهم الذي يكفيهم لو لم يكن رائدَهم الطمعُ. والثالثة، رحاب، الفتاة اللبنانية الأكثر تفتحًا وتصالحًا مع النفس تصبح مذيعة شهيرة في التليفزيون اللبناني. قوية بما يكفي لتكون نموذجًا. هنا نلاحظ أن نساء عبد القدوس الساردات، كل منهن حملت شيئًا من أمه في الواقع السيدة فاطمة الشهيرة بروزا اليوسف مؤسسة المجلة والدار الصحفية التي تحمل اسمها؛ بقوتها وصلابتها وجمالها وتجاربها في الحياة، فمثلًا كما ترك نجوى أهلُها لتربيها أسرةٌ غير أسرتها تحاول أن تستفيد من جمالها عندما تشب بتزويجها للرجل الذي يرونه مناسبًا، كذلك حدث مع روزا اليوسف التي ماتت أمها بعد ولادتها مباشرة واختفى والدها التاجر في ظروف غامضة إثر إحدى سفراته لجلب البضائع بعد أن تركها في رعاية جيران له تبنوها وغيروا اسمها من فاطمة إلى روزا ربما لأنهم رأوا أن ذلك أنسب لها لتعيش بينهم لأنهم كانوا مسيحيي الديانة، وما لبثوا أن أعطوها لأحد التجار اللبنانيين مهاجرًا إلى أمريكا الجنوبية لتخدمه لكنها في الطريق هربت عند رسو الباخرة في الإسكندرية لتبدأ رحلتها في مصر وتصبح سارة برنار الشرق ورائدة من رواد الصحافة المصرية. أما أمينة فقد أخذت من روزا اليوسف قصة ارتباطها، فكما ارتبطت روزا بالمهندس والممثل والكاتب الشاب حينها (محمد عبد القدوس) وسافرت معه إلى موطنه بإحدى قرى الشرقية كذلك ارتبطت أمينة بمهندس شاب (عبد السلام) وسافرت معه إلى السويس، وتمامًا كما حدث مع الأولى التي طُلقت قبل أن تضع مولودها الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، كذلك حدث مع أمينة، لكن بينما كان سبب طلاق الأم عدم رضا أهل زوجها عن اقتران ابنهم ب (مشخصاتية) وهو ما اعتبروه أمرًا مشينًا وسط أسرة محافظة، أمينة في الرواية هي التي تطلب الطلاق رافضة الزوج وأهله وكأن الكاتب ينتقم لأمه مما حل بها.وفي الساردة الثالثة والأخيرة: رحاب، لا نقول إلا أن الكاتب جعلها مثل أمه لبنانية، وجعلها نموذجًا للمرأة المعاصرة القوية المثقفة. القرار الثاني الذي اتخذه صناع جميع الأعمال الدرامية عن روايتنا هذه مرتبط أيضًا بقرارهم الأول بتنحية تعدد أصوات السرد؛ فالسارد الجديد يرى تغيير أو إغفال بعض الأحداث أو الكثير منها لتوائم وجهة نظره والمجال السردي الذي يقدم العمل من خلاله، والعصر الذي يعيش فيه، وجمهور المتلقين. كان أكثر الأعمال أمانة في تقديم الرواية، المسلسلَ الإذاعيَّ؛ امتداده الزمني الذي يقارب في مجمله الست ساعات سمح بالاحتفاظ بمعظم الخيوط الدرامية والشخصيات مع تغييرات طفيفة للغاية مثل التغاضي عن التصريح بوجود علاقات محرمة والاكتفاء بالإشارة إلى ذلك حتى إن المستمع يسأل نفسه طوال المسلسل إن كان ما بين البطل (الطبيب الشهير) ومريضاته حبًا عذريًا مجردًا أم غير ذلك، وربما لنفس السبب جعل البداية مع قصة نجوى المريضة الأصغر سنًا والأكثر براءة على خلاف النص الأصلي الذي بدأ بأمينة (والتي تشتهر باسم ميتو) وأعطاها المساحة الأكبر من الرواية لتحكي قصتها حتى تحولت إلى فتاة (عاقلة) لا تؤمن بالحب، لكنها تبيع جسدها لمن يقدره!!
المسلسل الإذاعي أيضًا وضع تغييرات طفيفة أخرى لمواكبة العصر الذي أذيع فيه، نكتفي هنا بالإشارة إلى تغيير البلدة التي يصطحب أمينةَ إليها زوجُها الأول (عبد السلام) وكانت في الرواية السويس لكنها تحولت في المسلسل الإذاعي إلى الفيوم، والأولى عند كتابة الرواية كانت إحدى المدن المصرية العصرية الملأى بالفرص الاستثمارية كونها بوابة قناة السويس وحولها كانت حقول بترول ومناجم اكتشفت ونشط العمل بها والسفر إليها في العقد الأول من النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى عندما وقع دمارها إبان العدوان الثلاثي عام 1956م. والذي لم يدم طويلًا؛ صارت ساحة جيدة للمقاولين والمهندسين الذين كان عبد السلام واحدًا منهم، لكن الفاصل بين تاريخ نشر الرواية وتحويلها إلى مسلسل إذاعي وقعت فيه نكسة 5 يونيو 1967م. واحتُـلت سيناء وصارت السويس مدينة أشباح هي وكل مدن القناة حيث تم تهجير سكانهم وصارت ساحات لحرب الاستنزاف، في الفيلم أيضًا الذي أنتج عام 1972م. كانت المدينة البديلة هي دمنهور، أما في المسلسل التليفزيوني فقد أعيدت الأحداث إلى السويس مرة أخرى لأنها إبان إنتاج المسلسل كانت تحررت وعادت سيرتها الأولى بل تحولت إلى مدينة فُرص استثمارية واعدة. الفيلم السينمائي الأول الذي أخذ عن الرواية، وهو من إخراج حسين كمال، كان إلى حد كبير متحررًا من كل القيود الأخلاقية التي راعاها المسلسل السابق، بل أسهب في عرض تفاصيل العلاقات بين الطبيب ومريضاته، وأفرط في استعراض مفاتن أجساد نسائه لدرجة جعلته محل انتقاد حتى من معاصريه وإلى الآن، ومع ذلك ربما لا يكون تخطى هذه المساحة من الحسية وما يمكن أن نصفه بالفوضى الجنسية في الرواية الأصلية، يؤخذ في الاعتبار أن الأفلام حينها لم تكن تعرض إلا في السينمات، ولم تكن تتخطى إلى المشاهدين في المنازل إلا من خلال رقابة التليفزيون الأكثر تشددًا والتي كان بإمكانها حذف مشاهد بأكملها إن لم تكن تناسب العرض الأسري، لكن أيضًا في هذه الفترة التي سبقت حرب أكتوبر قيل إن الرقابة طولبت بأن تكون أكثر تساهلًا في هذه الأمور كامتداد لخطة التمويه التي اعتمدت على إقناع العدو بعدم الرغبة في القتال، وانشغال الناس باللذات والحياة المادية. مع كل العري والجنس في الفيلم، إلا أن صناعه آثروا النهاية الأخلاقية حيث بدت المرأة الخائنة آخر الأمر بائسة تحولت من ابنة عائلة محترمة إلى فتاة ليل، أما الطبيب الماجن بدوره فقد لاقى نهاية مناسبة مع امرأة كما يقال "طلَّعت عليه القديم والجديد" وأورثته حزنًا ربما يعادل كل كآبة تسبب فيها لامرأة على مدار حياته. في المسلسل التليفزيوني آثر صانعوه الكاتب أحمد الخطيب والمخرج نور الدمرداش أن يحدثوا تغييرات كبيرة في أصل القصة لتلائم العرض التليفزيوني، وأهم هذه التغييرات كان التخلي تمامًا عن فكرة العلاقات المحرمة المنفتحة وأصبحت الحكاية أكثر واقعية بالتركيز على صراعات الحب والتعلق والقلق، والفوارق العمرية وجدلية تأثيرها على علاقة الرجل بالمرأة، العين الرابعة (صناع المسلسل) جعلوا الشخصيات أكثر هشاشة وأكثر خضوعًا لأقدارهم التي حولتهم إلى شخصيات تراجيدية. تنتهي أمينة بائسة في مصحة للأمراض النفسية والدكتور مكتئبًا معتزلًا الحياة والعمل بعد موت نجوى متأثرة بمرضها، أما رحاب فتظل الشخصية الأقوى، لكنها هنا لم تعد فتاة لبنانية منفتحة بل صارت طبيبة أمراض نفسية تتولى معالجة كل تلك المآسي التي ألحقها صناع العمل بأبطاله. أنف وثلاث عيون 2024
تعليق من أحد المشاهدين المصريين بعد مشاهدة الفيلم؛ قال: "كأنه مسلسل مدبلج.. كأنك تتفرج على عالم سمسم"، هو تعليق يشي بانفصال هذا المشاهد (وحده) عن أجواء الفيلم، وفي الواقع سمعنا وقرأنا تعليقات كثيرة تشبه هذا من مشاهدين مصريين، عكس ما وجدناه مثلا من حصول الفيلم على جائزة الجمهور في مهرجان مالمو أو الاستقبال الجيد له من جمهور مهرجان البحر الأحمر في جدة، كما لو كان ثمة حاجز بينه فقط وبين الجمهور الأصلي الذي صنع -كما يفترض- من أجله. ما العائق أمام الفيلم الذي يحمل اسم رواية ناجحة لأديب ما تزال مؤلفاته تحقق أعلى المبيعات في مصر، ونفس الاسم لفيلم له شعبيته الكبيرة حتى بعد مرور أكثر من اثنين وخمسين عامًا على إنتاجه؟! ربما الإجابة ليست بسيطة لكننا نحاول من خلال قراءة الفيلم الوصول إلى جذورها. أولا لا بد من الإشارة إلى أن الفيلم لا يعد اقتباسًا أو معالجة سينمائية للرواية، إنه إلى حد بعيد نص جديد مؤلف ومختلف تمامًا إلى الحد الذي يجوز معه نسبته إلى مؤلفه الجديد وحتى إغفال اسم إحسان عبد القدوس تمامًا، كل ما في الأمر أن الفيلم يستلهم شخصيات الرواية ويعطي إحالات إليها، وهي بالمناسبة إحالات -غالبًا- لن يفهمها من لم يقرأ النص القديم، المركز الذي تدور الأعمال الدرامية الأخرى في فلكه أو على الأقل مَن شاهد أحد هذه الأعمال السابقة. على سبيل المثال تجد شخصية أمينة (نورا شعيشع) تظهر فجأة وتُبدي سلوكًا عدائيًا عنيفًا تجاه الطبيب (ظافر عابدين) وهو سلوك مبني على أحداث في الماضي لم يرها مشاهد الفيلم، وكذلك ظهرت نجوى (أمينة خليل) وإن كان الفيلم يعطي، من خلال الفلاش باك؛ نبذة معقولة عن علاقتها السابقة بالطبيب. أيضًا عندما تقرر رحاب/روبي (سلمى أبو ضيف) السفر إلى لبنان لقضاء العطلة مع أمها، لا نجد سببًا منطقيًا لتكون أمها في لبنان، ولماذا لبنان تحديدًا؟ ما الذي تمثله أو ترمز إليه أو حتى تشير إليه؟ هل يرغب صانع الفيلم في تبرير تحرر الفتاة مثلًا والذي يجعلها متأثرة أيما تأثر عندما يرفض البطل التمادي في التواصل الجنسي معها، وكأنها زوجته، وهي بفخر تتحدث عن أنه "في حكم البوي فريند" وأن أمها لا بدّ ستسألها قريبًا عن تفاصيل ديكور شقته، في الواقع لم تكن هناك حاجة لتبرير هذا التحرر فكل شخوص الفيلم يظهرون نفس السلوك دون الحاجة إلى مبررات: الطبيب الذي يتفاخر بعلاقاته المتعددة أو الذي يتحدث عن جلوسه المعتاد في كافيتيريا ليتناول كأسي نبيذ في انتظار (أي امرأة) تشاركه جلسته، يتحدث عن الخمر وكأنه عصير تفاح، أو كأن الكافيتيريا التي يتحدث عنها على شاطئ أحد الأنهار في أوروبا. طبيبته النفسية أيضًا تصطحب صديقًا بعد سهرة صاخبة ليقضيا معًا ليلتهما في منزلها ثم في الصباح تقول له بجفاء "خلصت، إلبس هدومك وامشي". الكل إذًا متحررون وليس أحدٌ منهم من لبنان أو يعيش في لبنان أو له علاقة بلبنان، لكن فقط رحاب تذهب إلى لبنان لأن رحاب الأصلية كانت لبنانية أحالنا الفيلم إلى ذلك الأصل دون أن يعيد ذكر القصة ليفهم المشاهد ما غمض عنه.
هنا تجدر الإشارة إلى أن الفيلم تعفف تمامًا عن أي تصوير فج لأي علاقة عاطفية ولا حتى قُبلة، ومع ذلك تجده مصنفًا (+16) وتجد لومًا شديدًا في تعليقات المشاهدين لصناعه لما يرونه مخالفة للأعراف وتعديًا على الأخلاق في سلوك شخوصه، وهو ما يمكن تبريره من صناع الفيلم بأن الفئة المعروضة في الفيلم موجودة في المجتمع وهي حقيقة، وكانت ربما أقل انحلالًا مما عرضته الرواية الأولى الصادرة في أوائل الستينيات، أو الفيلم في أوائل السبعينيات، ويلقي البعض اللوم على الجمهور الذي أصبح أقل انفتاحًا، وطبعًا هذه حقيقة لكنها ليست السبب الوحيد، نعم جمهور ما قبل النكسة اختلف بعدها، وجمهور ما قبل أكتوبر تغير كثيرًا بعدها وذلك موضوع تسوّدُ فيه صفحات، لكن ثمة أسباب أخرى، صحيح أن إحسان عبد القدوس كان يكتب عن الطبقة التي أطلق عليها البعض (الطبقة المخملية) وهي مجتمعات منفصلة عن جموع الجماهير لها خصائصها وسماتها وأخلاقها المغايرة تمامًا للسواد الأعظم وهي نفس الطبقة، أو بلفظ أدق؛ الفئة التي يدور حولها فيلمنا هذا، لكن الجمهور (اليومَ) يتقبل قراءة روايات إحسان عبد القدوس ويبدي استياءه من سلوك الشخصيات في الفيلم لأن روايات عبد القدوس كانت تنتهج ما يسمى (الرواية الصحفية) فكانت تميل إلى تسلية الجمهور من خلال إطلاعه على الحياة الخاصة الغريبة والمستهجنة لأبطال الروايات، كأنه يتلصص عليهم من خلال بيت زجاجي، لكنهم مهما شذوا وشطّت أفعالهم يُترك في النهاية لهم فرصة للعودة إلى إطار الحياة الطبيعية، العادية؛ فيطمئن القارئ إلى أنه على صواب وأنه النموذج، حتى الفيلم القديم بكل ما فيه من مساحات الإباحية والعري، ينتهي بختام أخلاقي إذ يلقى الجميع جزاءهم، بل حتى المسلسل التليفزيوني الذي حذف من الرواية معظم ما يمكن أن يكون لا أخلاقيًا، عمد في الحلقة الأخيرة إلى معاقبة شخوصه (ربما ليضمن أن الجميع مرتاح). أما في فيلمنا هذا فلم يقبل الجمهور أن يطرح عليه نموذج هذه الفئة بشكل محايد كمجرد جزء من المجتمع نبرر له أفعاله، حتى عندما يعترف البطل (دكتور هاشم) أمام نفسه: "أنا كنت زباله قوي كدة"، ترد عليه معالجته النفسية قائلة: "لا أبدًا". كأنها تقدم له ولنفسها ولمجتمعهما براءة وشهادة بالصلاح، وهذا سبب كافٍ لعدم تفاعل الجمهور مع شخوص الفيلم. قرر صانع الفيلم أن يقدم العين الرابعة، رؤية دكتور هاشم نفسه عن نفسه، الدكتور هاشم الذي تحدثت عنه الساردات الثلاث في الرواية فألصقن به كل دناءة من انحلال لخيانة لأنانية مفرطة. تسبب في تدمير حيواتهن جميعًا دون أن يتحمل أي مسؤولية عن نتائج أفعاله وآخر الأمر تزوج امرأة طيبة ليست ككل النساء اللاتي عرفهن ليكمل حياته معها وسط أسرة وديعة دون أدنى عقاب له من المجتمع. هذه المرة يُعطى الفرصة كي يتحدث. ولعمل توازن أضاف الفيلم شخصية دكتورة علياء (صبا مبارك) المعالجة النفسية التي يُفترض أنها ستشارك في تحليل شخصيته، ولماذا لا تنتهي علاقاته مع النساء بالزواج، وهنا نعود للنقطة الأخلاقية، فالرواية في الماضي لم تعتبر بطلها مريضًا نفسيًا، على العكس جعلته شخصية متوازنة وناجحة ومطمعًا لكل الباحثات عن الزواج، لكن لديه وجهًا آخر بعيدًا عن عمله كونه زير نساء متعدد العلاقات، والسبب الرئيسي لعدم زواجه ليس أزمة نفسية يعانيها بل لأن كل من يعرفهن لا تصلحن زوجات محترمات، على الأقل من وجهة نظره، أما الفيلم فيطرح فرضية أخرى: إنه يعاني قلقًا أو مرضًا نفسيًا جعله لا يكمل أي علاقة بالزواج، ليس لأنه يصل بهذه العلاقات إلى النهاية؛ فهذا يعتبره الفيلم أمرًا عاديًا كأننا في أوروبا أو أمريكا. من ناحية قامت حبكة الفيلم على أساس أن الكابوس الذي يراه البطل يفزعه ويجعله قلقًا في حياته لدرجة تدفعه للذهاب إلى طبيبة نفسية بعد ترشيحها له من قبل أخته، ورغم أن الفيلم يسهب كثيرًا ويعطي زمنًا طويلًا لأحداث أقل أهمية؛ يعرض هذا الحلم باختصار شديد وتكرار محدود وينسى حتى الإشارة إليه طويلا حتى ننساه ثم يذكرنا به على استحياء فضاعت قيمته كأساس للحبك. كما أن الحلم في حد ذاته لم يكن بهذه القوة التي تجعله يرعب رجلًا أربعينيًا ويشغل عليه تفكيره. إيقاع الفيلم يبدو بطيئًا جدًا إلى حد يضعف قدرة المشاهد على المتابعة وزاد من الإحساس بهذا الثقل استخدام بالتة ألوان قليلة التشبع أقرب إلى ألوان الباستيل وهي مناسبة تمامًا للأجواء الشتوية التي تسود الفيلم فكل المشاهد تعتمد خلفية تؤكد على الطقس البارد وجميع الممثلين يرتدون الملابس الثقيلة ماعدا سلمى أبو ضيف كانت الدنيا عندها (صيف على طول). وظف المخرج تقنية تعدد الساردين وتعدد أساليب السرد، لكنه ركز بشكل أساسي على السرد الصوتي سواء من خلال التعليق الخارجي بصوت البطل أو من خلال مونولوجات أو مناجاة بين الشخصية الرئيسية ونفسها، أو من خلال الحكي على ألسن آخرين مثل الأب الذي يحكي له عن ماضيه أو المعالجة النفسية التي تشرح له أزمته النفسية، أما بصريًا فلا يمكننا التغاضي عن إهمال هذا العنصر كأداة الحكي السينمائية الأولى. معظم التفاصيل نسمع عنها ولا نراها مجسدة على الشاشة مما قلل من تفاعل المشاهد معها، فليس الأمر حكاية قصة لكن حكايتها بطريقة سينمائية، وليس المهم في الصورة السينمائية أن تكون (حلوة) بل (جميلة) والفرق بين الحلاوة والجمال هو العمق، القدرة الدرامية، والتمكن من إمتاع العقل. من ناحية الأداء تألق البعض مثل سلمى أبو ضيف في دور رئيسي ونورا شعيشع في مشهد قصير لكنه مؤثر، ظافر العابدين اعتمد نجاحه على رصيده لدى المشاهدين وليس أدائه خاصة مع عدم تمكنه من اللهجة المصرية الأمر الذي جعله يبذل جهدًا مضاعفًا في النطق فصله عن الاندماج في الأداء، الآخرون أدوا أداء مقبولا والبعض جاء أداؤهم آليًا كما وصفهم بعض المشاهدين بأنهم جاؤوا من عالم سمسم، والمفارقة أن بعضهم فعلا من نجوم النسخة العربية من مسلسل عالم سمسم. وفي الواقع أن بعض الأدوار كانت بمشاهدها وحواراتها يمكن الاستغناء عنها مثل مشاهد عائلة المعالجة النفسية أو مشاهد عشيقها أو سهرتها في الملهى الليلي أو مشهدها مع طبيبها النفسي وحوار البطل مع أبيه عن كرة القدم الذي خرج بالمشاهد عن الموضوع ولم يضف شيئًا أو يدفع الأحداث بأي شكل من الأشكال. الموسيقى لتامر كروان كانت أنيقة ومناسبة لأسلوب المخرج أمير رمسيس في الفيلم الذي قدم حكيًا شديد الرومانسية عن مجتمع شديد المادية.