منذ حوالي ربع قرن عُرض الفيلم الذي يعد إحدى أيقونات السينما المصرية والعربية، عرق البلح. ربما لم يحظ حينها بنجاح كبير في دور العرض المحلية وانطلقت ألسن النقاد وأقلامهم معلنة أنه مؤامرة حيكت لإفشال الفيلم الذي عرف الجميع قيمته لكنه لم يبق في دور العرض سوى أسبوع واحد ورفع لأنه لم يحقق الحد الأدنى من العائد المقبول في ذلك الوقت، وعرض الفيلم في أوروبا ولاقى استحسانا حتى يقال إنه ظل في دور العرض الفرنسية لسبعة أسابيع كاملة، كما أعيد عرضه في مصر على الأقل في المراكز الثقافية وأندية السينما. في كل مكان عرض فيه حتى عندما عُرض في التليفزيون المصري؛ عرف الجميع أنهم أمام أحد الأعمال التي ستخلد في ذاكرة العالم وستنفتح بوابة للإلهام أمام صناع السينما. المعضلة التي تحير فيها النقاد حينها هي الكيفية التي تلقى بها المشاهدون الفيلم. بينما نظر له المشاهدون المصريون -خاصة المثقفون منهم- على أنه عمل رمزي مفارق للواقع أقرب إلى الفانتازيا، تلقاه المشاهدون في فرنسا على أنه عمل فلكلوري يستلهم القصص الشعبية المصرية، كما رآه آخرون -خاصة في الأقطار العربية الشقيقة- على أنه فيلم واقعي.
رضوان الكاشف نفسه يقول في مقدمة سيناريو الفيلم المنشور: "السمة الأساسية للفيلم القائمة على الخلط بين الواقع والأسطورة". إذًا، فهذا ما كان يطمح إليه، وكان ذلك سبب الخلط عند كثير من المشاهدين. رضوان أحد المثقفين العرب أواخرَ القرن العشرين الذين اطلعوا على أفكار ذلك العصر المُتَّسم بالخلط بين الرؤى والنماذج، الواقع والخيال، الخرافة والتاريخ، الشعبوي والنخبوي. سمات ما أطلق عليه ما بعد الحداثة. اللحظة التي أدركت فيها الإنسانية قدرة منتجات الخيال والتصورات العقلية على التجسد لتبدو، لا نقول أقرب إلى الواقع؛ بل جزءًا أصيلًا منه وربما بديلًا محتملا له. الروبوت صار لحمًا ودمًا يحس ويفكر ويرتقي يومًا بعد يوم، وفي نفس الوقت ما يزال البشر غير قادرين على حسم تساؤلاتهم حول طبيعة الوجود وإمكانيات الخلود.. وسط هذا التماهي بين الأفكار والتصورات، أراد الكاشف أن يكون فيلمه عرق البلح معبرًا عن تلك اللحظة الفارقة في تاريخ الإنسان ووجوده. حاول من خلال السيناريو أن يقدم صورًا خيالية أو لنقل خرافية، حكيًا يليق بشغفه بأساليب الحكائين الشعبيين القدامى الذين رووا سيرة أبي زيد وعنترة والزير سالم وعلي الزيبق، هؤلاء الذين سردوا الملاحم الشعبية بحس موسيقي وإيقاع متوارث يجمع بين الشجن والثورة، بين الألم والواقع، والرغبة في تغيير الواقع. الكاشف، رضوان، رأى في نفسه حكاءً شعبيًا، أراد أن يبهر جمهوره بسرد سمعبصري جديد، لم يعتده هذا الجمهور، ومن الواضح أنه من خلال ثقافته الموسوعية وانتماءاته الثورية ودراسته للسينما وعمله كمساعد مخرج تبصر بطريق ما يمكنه من خلاله تحقيق حلمه وتجسيد رؤيته، وهذا الطريق كان الواقعية السحرية التي ظهر انبهاره بها من خلال أفلامه الروائية الثلاثة (ليه يا بنفسج) و(عرق البلح) و(الساحر)، بل ربما لو أمهله القدر وعاش حياة أطول كان ليستمر على نفس النهج خاصة بما أصبح متاحًا اليوم من تكنولوجيا يمكنها أن تجسد رؤى عالمه الخيالي الرحب. أحد التعليقات التي صادفتها من مشاهد أجنبي يدعي شبهًا بين فيلمنا هذا وفيلم مدينة النساء (La città delle donne) 1980 للمخرج الإيطالي العالمي فيديريكو فيلليني. صاحب التعليق يَعتبر عرق البلح استلهامًا من فيلم فيلليني الذي يتحدث عن صدفة تقود البطل إلى مدينة تحكم فيها وتسيطر عليها النساء. في البدء يعتقد أنه وصل إلى فندق حيث تعقد إحدى الجمعيات النسوية مؤتمرًا، وربما يجد متعة في التلصص على أنشطتهن ومحاضراتهن قبل أن تكتشفن وجوده ويكتشف أنه في عالم مواز ليس هو ذاته العالم الذي غادره. في الواقع كل ما يجمع هذا الفيلم بذاك أن النساء تحكمن العالمين وإن كن في عرق البلح تحكمن بشكل مؤقت في فترة محددة هي فترة غياب رجالهن المسافرين إلى (بلاد بعيدة) للعمل، عندما يرجعون تعود موازين القوى إلى نصابها. حاول المخرج/المؤلف هنا أن يبني مدخلًا فانتازيًا لعمله يظهر ذلك في السيناريو المكتوب أكثر بكثير مما استطاع آخر الأمر تحقيقه في الفيلم النهائي كما رآه الجمهور. لنقرأ على سبيل المثال بعضًا من وصفه لموكب الغرباء الذي دخل القرية/النجع/الواحة: "الرجال يتدافعون إلى ساحة النجع، يتسمرون في أماكنهم من غرابة ما يرون.. سيارة نصف نقل من الموديلات الحديثة المنتشرة، يجرها صف من الحمير والأبقار والجاموس والأغنام والطيور نعام وبط ووز وفراخ وذات السيارة تقوم بجر عدد كبير من الأبقار والجاموس والأغنام والطيور، وعلى جانبي السيارة ربط حصانان يمتطيهما رجلان ملثمان يرتديان حلة غريبة تشبه زي عسكري لا ينتمي إلى عصر بعينه، وفي صندوق السيارة الخلفي يقف جمل يحمل على ظهره هودجًا كبيرًا مغطى من كل الجوانب بشراشف حريرية زاهية الألوان، ويتراءى وراءها شبح رجل يرتدي ملابس غريبة، وشدت ستارة على البربريز الأمامي للسيارة بحيث لا يرى الجالس على مقعد القيادة ومن بجواره...". تخيل هذه الصورة وكيف يمكن أن تتجسد كمشهد أسطوري مهيب تجر فيه السيارةَ تلك الحيوانات والطيور المتراوحة بين الضخامة والقوة كالجاموس، والصغر كالإوز والدجاج، ثم انظر كيف ظهرت آخر الأمر للجمهور على الشاشة: جمل يعلوه هودج تغطيه قطع من البلاستيك ذي الفقاقيع الذي تغلف به الأجهزة والمنتجات القابلة للكسر، يتحدث من داخله رجل غريب نسمع صوته ولا نراه، وحارسان يركب كل منهما دراجة هوائية بديلا للحصان ويغطيان وجهيهما بما يشبه حافظة من جلد حيوان مشعر من أحد جانبيه كأنه قناع ليس إلا، نصفهما الأعلى عار ويرتديان سراويل بيضاء قصيرة أقرب إلى الملابس الداخلية القديمة التي كانت تصنع من قماش الدمور مع أحذية وجوارب رياضية ويعلق كل منهما على ظهره كنانة بائسة مليئة بالأسهم لا معنى ولا هدف من وجودها. تلك التفاصيل التي جعلت المشهد أقرب إلى الكوميديا لا الفنتازيا وهي معضلة تقابلنا كثيرًا في أفلامنا التي يصفها النقاد وصانعوها أحيانًا بالفنتازية ويتحير المشاهد العادي في الوصف حيث يجدها أقرب للأفلام الكوميدية التي اعتاد عليها. بعد ذلك المشهد الافتتاحي نجد كل الأحداث تتخذ منطقًا سرديًا تقليديًا متسلسلا تحركه السببية والتصاعد الدرامي من خلال العقدة ونقاط التحول وذروة الصراع ثم الحل مثل كل فيلم كلاسيكي آخر. نستطيع أن نقول إن نَفَس رضوان الكاشف الفانتازي كان قصيرًا، حاول من خلال نصه المكتوب، لكن ظروف الإنتاج آخر الأمر فرضت بقسوة عليه العودة إلى أرض الواقع على خلاف فيلليني الذي ظل يولّد صورًا فانتازية طوال ساعتين ونصف هي مدة فيلمه المشار إليه. اتخذ فيلم عرق البلح شكل حكاية داخل الحكاية، حيث تروي امرأة عجوز قصة أفول الحياة في النجع لشاب يعود بعد غيبة طويلة متعقبًا تاريخ أجداده فلا يجد أحدًا من أهله سوى العبدة العجوز زيد الخير وشابة أخرى، وعلى خلاف المعتاد من أن يكون مدخل القصة واقعيًا ثم ينطلق الحكي في أجواء خيالية، نجد هنا العكس حيث يصحبنا رضوان الكاشف بدءًا من العناوين في أجواء أسطورية، تبدأ بإهداء الفيلم: "إلى الجنوبي المطارد بخبيئته.. سلامًا إليك يوم تموت وسلامًا إليك يوم تبعث حيًا"، نلاحظ هنا الأسلوب القرآني الذي يضفي أهمية على شخصية (الجنوبي) الذي يصفه بداية ب (المطارد بخبيئته) وهي إشارة واضحة إلى الخبيئة الشهيرة التي احتوت كثيرًا من توابيت المومياوات لملوك وملكات مصر القديمة حُفظت سرًا بعيدًا عن مقابرهم كي لا تصل إليها أيدي اللصوص. تلك الخبيئة التي ما تزال حديث العالم منذ اكتشافها قبل عشرات السنين، والتي دار حول قصة اكتشافها فيلم (المومياء.. يوم أن تحصى السنين) الشهير لشادي عبد السلام. هذا يعظم من شأن الجنوبي ثم يجيء استلهام النص القرآني الذي ينقل حديثًا على لسان السيد المسيح عليه السلام في سورة مريم [الآية 33] إذ يقول عن نفسه: "وَٱلسَّلَٰامُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّا". إذًا فالنص يبالغ في الاحتفاء بهذا الجنوبي الذي قد يكون الصعيدي وقد يكون المصري أو العربي، أو هو الإنسان على وجه العموم وربما هو رضوان الكاشف نفسه. نلاحظ هنا إذا قارنا نص الإهداء بالنص القرآني أن الكاشف تحدث عن يومين فقط: يوم يموت (الجنوبي) ويوم يبعث حيًا، وهما يومان يشيران دون شك إلى لحظة يقين هي لحظة الموت والتي تعد الحقيقة العظمى في حياة الإنسان وكل كائن حي نعرفه عين اليقين، ثم لحظة البعث التي يختلف حولها البشر بين مؤمن وكافر بها ومتحير بشأنها. هي لحظة يجتمع عندها [في منظور الإنسانية] يقين المعرفة وإنكار الجهل. يتعامل معها صانع الفيلم هنا كلحظة يقينية أخرى. أما لحظة الميلاد فلا يذكرها إطلاقًا بل يستبدلها بفكرة كون الجنوبي مطاردًا بخبيئته وهو ما نفهم منه ارتباط هذا الجنوبي بفكرة البحث عن الذات، عن المكنون، الجوهر أو الهوية التي تظل حيرته تطارده حتى لحظة اليقين الأول (الموت) ورجاء اليقين الثاني عند البعث، فيبدو أن البعث هنا هو بعث الهوية الحاضرة رغم غيابها. وهو بعث يرجوه صانع الفيلم ولا يتيقن من تحققه ولذلك يستبدل يقينية حديث المسيح: "السلام عليَّ.." بتلطف المتمني في نص الإهداء: "السلام إليك..". مقدمة أسطورية فخمة تقودنا إلى متن القصة، وهنا يتخذ السرد منحى أقرب إلى الواقع، ولا نلوم لذلك من يتصوره واقعًا بحتًا خاصة مع التصدي لقضية أرقت المجتمع المصري منذ السبعينيات وربما حتى الآن وهي قضية الهجرة إلى بلدان النفط وهجر الوطن الذي ترك للتردي بينما لم يحصّل أبناؤه في مهاجرهم غير الألم والهوان، أغرتهم في البدء وعود اكتشفوا أنها زيف وأن ما أخذته منهم أروع كثيرًا مما منحته لهم، أخذت أجمل سنوات عمرهم وربما أرواحهم مقابل فتات لم يعد يساوي شيئًا في وطن محطم. إذًا، ما دام الموضوع واقعًا هل يمكننا اعتبار الفيلم واقعيًا؟ الحقيقة: لا. هناك تفاصيل كثيرة لو تتبعناها نكتشف أننا بصدد محاولة لإلصاق صفة الواقع بالخيال، منها على سبيل المثال عنوان الفيلم (عرق البلح) والذي يعظّم من شأن هذا النوع من الخمور ويجعل صناعته أحد الأهداف أو الأحلام التي يسعى أهل القرية كلهم نحو تحقيقها، بل تكرّم العبدة (زيد الخير) التي أدت دورها الممثلة السودانية القديرة فائزة عمسيب، بتلقيبها بصانعة عرق البلح، وعندما يتمكن البطل المراهق من صعود (العالية) النخلة الأسطورية، والحصول على بلحاتها البيض، أول ما تقوم به نساء القرية احتفاء بهذا الإنجاز هو تعريق البلح وعقد حفل سكر جماعي ماجن تتكشف خلاله خبايا أنفسهن، هذا الحدث إذا نظرنا إليه من منظور رمزي وجدناه غنيًا بالعلامات والرموز التي تنقل رسائل صانع الفيلم بحيوية، أما لو حاكمناه من منظور واقعي لكشفنا بسهولة لا واقعيته، فلا يمكنك بسهولة أن تجد قرية أو نجعًا صعيديًا طبيعيًا يعظم فيه قدر الخمر إلى هذا الحد، بل إن من يتعاطاها أو يصنعها يكون دائمًا محل تحقير وإدانة من المجتمع، ومثل هؤلاء ستجدهم دائمًا من الحثالة المنبوذين لا من علية القوم وسادته كما يصور الفيلم. القصة تدور في، وتتحدث عن الصعيد، لكن اختيار مكان التصوير في قرية مهجورة بالصحراء الغربية، هنا تفصيلة قد تمر على المشاهد غير المصري وربما المصري الذي لم يعش في الصعيد أو الواحات ولا يعرف الاختلافات الكثيرة بين هذا وتلك. في نجوع الصعيد كانت تبنى البيوت قديمًا من الطوب الأحمر والطوب اللبن والطين، بينما في الواحات كانت البيوت التقليدية تبنى من الحجر الرملي والطوب اللبن وتكسى بالجير، ورغم أن البيوت سواء في نجوع الصعيد أو واحات الصحراء الغربية (شمال شرق الصحراء الكبرى الإفريقية) تتجمع في شكل كتل سكنية ذات شوارع ضيقة إلا أنك لن تجد في الصعيد بوابة للنجع أو القرية مثل التي تواجه الشاب العائد إلى وطنه في المشهد الافتتاحي، يختلف الأمر بالنسبة للواحات حيث يضطر السكان لعمل بوابة تحمي قريتهم من هجوم الحيوانات الضارية أو اللصوص. أيضًا البيوت في الصعيد أكثر رحابة لها بوابات كبيرة لن تضطر لطأطأة رأسك عند عبورها وعادة ستجد براحًا أو ساحة مفتوحة داخل البيت تضم صوامع تخزن فيها الغلال لاستخدام أهل البيت وستجد زريبة ملحقة به تضم بقرة أو جاموسة وبعض الحيوانات والطيور الأخرى وللبيت بوابة خلفية ضخمة تسمح بمرور الحيوانات عندما يخرجها أهل البيت لترعى في الحقل طوال النهار ثم تعود معهم قبل الغروب، طبيعة الحياة في قرى الصعيد مختلفة كل الاختلاف عنها في الواحات، هذه الطبيعة تفرض قانونًا واضحًا منذ آلاف السنين وهو أن القرى في الصعيد لا يمكن أن تموت برحيل سكانها لأن وجودها في الواقع أكبر منهم، إن الحياة في وادي النيل منكشفة على السطح ولا تحتاج من يحفر ليفجرها. لكن القصة التي يرويها الكاشف تفترض موت المكان بمغادرة عامريه، لذلك جمع بين القصة التي تتحدث عن الجنوب (الصعيد) وجعلها تدور في الغرب (الواحات) ليتمكن من بناء واقع جديد يحقق حلمه في توحيد الواقع مع الأسطورة، واقع جديد ليس واقعيًا لكنه ساحر.